في مارس من عام 2016، تصدر عناوين الصحف العالمية خبر "ازدياد طول رائد فضاء بمعدل بوصتين، بعد قضائه عامًا في الفضاء" إشارةً إلى "سكوت كيلي" الذي قضى 340 يومًا متواصلًا في الفضاء، ليصبح مجموع ما قضاه في رحلاته الفضائية 520 يومًا.
بالإضافة إلى قضائه مدة طويلة في الفضاء، شارك سكوت في دراسة التوأم الفريدة من نوعها، التي كشفت العديد من التأثيرات التي تحدث لأجساد البشر عند السفر للفضاء، حيث تابعت تلك الدراسة التغيرات الفسيولوجية والنفسية التي حدثت لسكوت خلال فترة سفره إلى الفضاء، مقارنة بتوأمه (مارك)؛ رائد الفضاء المتقاعد الذي قضى تلك الفترة على كوكب الأرض.
لا يقتصر تأثير التواجد في الفضاء على زيادة طولنا فحسب، بل إن له تأثيرات فسيولوجية ونفسية هائلة على أجسادنا، نستعرضها في هذا المقال.
تأثير الإشعاع الفضائي على أجساد البشر
نتعرض للإشعاع الفضائي يوميًا على كوكب الأرض، لكن بفضل المجال المغناطيسي والغلاف الجوي الذي يحمينا من غالبية الجسيمات التي تمثل بيئة الإشعاع الفضائي، فإننا لا نتعرض سوى لكميات ضئيلة من ذلك الإشعاع. وعلى نقيض ذلك، يتعرض رواد الفضاء إلى مستويات أعلى بكثير من تلك التي نتعرض لها على الأرض؛ لافتقار الفضاء إلى تلك العوامل التي تحمي كوكبنا.
ولكن، لماذا نخاف التعرض للإشعاع إلى هذا الحد؟
تشير وكالة ناسا الفضائية إلى ارتباط التعرض المتزايد للإشعاع الفضائي بعواقب صحية خطيرة؛ تتضمن أنواع من السرطان وبعض الأمراض الانتكاسية، كأمراض القلب، كما تشير إلى أن الأمر لا يتعلق بالفترة التي يقضيها رواد الفضاء في رحلاتهم فحسب، بل إن نوع الإشعاع في بيئة الفضاء له تأثير سلبي أكبر على صحة البشر، مقارنة بنوع الإشعاع الموجود على الأرض.
وفي إطار الجهود المبذولة لحماية رواد الفضاء، تطور وكالة ناسا الفضائية تقنيات وأجهزة جديدة؛ لرصد الأنواع المختلفة من الإشعاع الذي يتعرض له رواد الفضاء، بهدف تطوير طرق فعّالة للحد من تأثيراتها. كما تدعم الأبحاث التي تهدف إلى فهم وتحليل العواقب الصحية طويلة الأجل، التي تنجم عن التعرض للإشعاع الفضائي، بهدف توفير الحماية منها وضمان سلامة رواد الفضاء في البعثات المستقبلية.
الجاذبية المحدودة في الفضاء
لا يقتصر تأثير محدودية الجاذبية على الشعور بانعدام الوزن والقدرة على الطفو في الفضاء فحسب، بل إن له تأثيرات أخرى طويلة المدى على أجسام البشر. ففي حالة محدودية الجاذبية، تميل أجسادنا إلى الاسترخاء، مما يخفف الضغط الميكانيكي الذي تتحمله عظامنا، ولكن تشير الأبحاث إلى أن انخفاض الضغط الميكانيكي الناتج عن محدودية الجاذبية يؤدي إلى انخفاض كثافة العظام بمعدل 1 - 1.5 % في الشهر الواحد الذي يقضيه الإنسان في الفضاء.
إن الحل الأمثل لتفادي كل تلك المخاطر، هو محاكاة البيئة الطبيعية بتطوير جاذبية اصطناعية. لكن، حتى الآن لم يتمكن العلم من تقديم ذلك الحل سوى في الأبحاث النظرية.
تأثير التواجد في البيئة المغلقة لمركبات الفضاء
يلعب النظام الإيكولوجي داخل المركبة الفضائية دورًا كبيرًا في حياة رواد الفضاء؛ حيث تتغير خصائص الميكروبات في تلك البيئة، وتستطيع الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش طبيعيًا على جسم الإنسان (الميكروبيوم) الانتقال بسهولة من شخص إلى آخر في هذه البيئات المغلقة.
كما يتأثر الجهاز المناعي في رحلات الفضاء بارتفاع مستوى هرمونات التوتر مثل الكورتيزول؛ ما قد يؤدي إلى ارتفاع خطر الإصابة بأنواع معينة من الحساسية، وغيرها من الأمراض. وبالرغم من عدم تأثر المناعة المكتسبة لرواد الفضاء بعد عودتهم إلى الأرض، إلّا أن الأمر يحتاج إلى المزيد من الدراسات والأبحاث.
ولضمان سلامة رواد الفضاء، تستخدم وكالة ناسا الفضائية التكنولوجيا الحديثة لرصد أي ملوثات تنتج في تلك المركبات المغلقة، مثل غاز الفورمالديهايد والأمونيا وأول أكسيد الكربون، كما تعمل على التحليل المستمر لعينات الدم واللعاب؛ لكشف التغيرات التي تطرأ على الجهاز المناعي ودراسة نشاط الفيروسات الكامنة في الجسم وتأثير بيئة الفضاء عليها.
العزلة والشعور بالاحتجاز
وفقًا لبيل بالوسكي، المدير السابق لبرنامج ناسا للبحوث البشرية، فإن معظم الأبحاث التي أجرتها وكالة ناسا في الماضي كانت تركز على فهم التأثيرات التي تتسبب فيها الجاذبية المحدودة في الفضاء، وكيفية التغلب عليها؛ ما دفع المهندسين إلى التركيز على تطوير المركبات بصورة تعمل على الحد من تأثير محدودية الجاذبية. لكنها في سبيل ذلك، أصبحت مجرد كابينات مضغوطة، متناهية الصغر، وشديدة الازدحام، مما يفاقم شعور رواد الفضاء بالعزلة الشديدة والاحتجاز.
إن التواجد في الفضاء لفترات طويلة يضعف من قدرة الإنسان على الاندماج في تلك الظروف الصعبة، إلى الحد الذي قد يؤثر على الصحة النفسية والعقلية، ومن أجل التغلب على تلك التأثيرات التي لا يمكن غض الطرف عنها، تعمل وكالة ناسا الفضائية على تطوير التقنيات التي من شأنها محاكاة المعيشة على الأرض، للسيطرة على تأثيرات العزلة، والحد من اضطرابات الساعة البيولوجية التي تحدث نتيجة الاختلال في تعاقب الليل والنهار على النحو الذي اعتدناه في كوكب الأرض.
أخيرًا، إن السفر إلى الفضاء لطالما كان حلمًا نسعى إلى تحقيقه لاستكشاف ذلك الكون الواسع من حولنا، لكن في أثناء تحقيق ذلك الحلم الرائع، لا نستطيع إغفال التغيرات الفسيولوجية والنفسية التي يُحدثها السفر للفضاء في أجسادنا، ومنها ما قد يهدد حياتنا في بعض الأحيان.