شهد تاريخ البيولوجيا الحديث نظريتين مركزيتين لم يحدث التزاوج بينهما إلا في النصف الأول من القرن الفائت. وهما نظريتا الوراثة والتطور. يأتي الأبناء مشابهين للآباء لأن الصفات تُمرر من جيل إلى الآخر وفق قواعد محددة، هذا ما توصل إليه مندل، ونعرف اليوم أن هذه الصفات محمولة على مادة وراثية موجودة داخل أنوية الخلايا، نُطلق عليها جينات.
أما النظرية الثانية فتذهب في صورتها الحديثة بعد أن أفادت من نظرية الوراثة، إلى أنه من حين لآخر قد تحدث طفرة في أحد هذه الجينات، ما قد يغير قليلًا في صفة من هذه الصفات الموروثة، وهكذا تصبح عندنا صفتان في الأجيال التالية ونتيجة لظروف بيئية ما، يحدث انتخاب لإحدى هاتين الصفتين على حساب الأخرى. ولو ساعدت إحدى هاتين الصفتين في الإبقاء على حياة الكائن الحي الذي يمتلكها، فإن فرص بقائه وتكاثره وتمريره لهذه الصفة إلى الأجيال اللاحقة تزداد وهكذا تُنتَخب هذه الصفة المفيدة على حساب الصفة الأخرى، التي يقل عدد الحاملين لها تدريجيًا وربما تفنى تماما في النهاية.
عالم الجينات السحري
صرنا نعرف أن المادة الوراثية المحمولة على الجينات، موجودة في الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين دي إن إيه. في عام ١٩٩٠ بدأ أحد أهم المشاريع البشرية على مر التاريخ وهو مشروع الجينوم البشري، الذي يهدف إلى تسجيل تسلسل شرائط الدي إن إيه كلها الموجودة في داخل الحمض النووي لخلية بشرية، وقد استغرق إتمامه ١٤عامًا.
بدا الأمر أشبه بالاطلاع على الطلاسم السحرية لهذا الجسد البشري، إننا الآن نقرأ كتاب البشر، نعرف خرائطهم ونطلع على ما يجعلهم مميزين وما قد يتسبب في إمراضهم. لقد حمل هذا المشروع بشارات كبيرة للغاية وحالمة جدًا، التحكم أخيرًا في مصائرنا، ولكن لم يأتِ الأمر أبدًا على هذه الصورة الساذجة. إن الحمض النووي أعقد من ذلك وكثير من الآليات يتداخل فيها عمل أكثر من جين، ليس ذلك فقط، بل إن عمل الجين نفسه محكوم بحجم التعبير عن هذا الجين أو تثبيطه وهو الأمر الذي يرجع إلى آليات كثيرة معقدة جدا. ومع ذلك حمل فك شفرة الدي إن إيه فرصًا واعدة للغاية، تتعلق بتشخيص العيوب وتوقعها والأمل في الوقاية والعلاج مع توخي الحذر وعدم التسرع إلى النتائج.
ما الذي قد يكشفه لنا تسلسل دي إن إيه كذلك؟
لقد فكر العلماء في مقارنة المحتوى الجيني للأنواع المختلفة، ووجدوا الكثير من الأمور المذهلة التي ساعدتهم في تعميق فهمهم لآليات التطور وكذلك لدرجات القرابة في شجرة التصنيف. وجدوا على سبيل المثال أن البشر يشتركون في ٩٨,٨٪ من محتواهم الجيني مع الشمبانزي، و٩٨.٤٪ مع الغوريلا، و٩٣,٤٪ مع البابون و٦٠٪ تقريبا مع الموز.
ولم تقف حدود هذه المقارنات وفوائدها في فهم آليات العالم عند هذا الحد، بل كللت جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا هذا العام سفانتي بابو، إذ نجح في استخلاص بعض دي إن إيه أشباه البشر التي عاشت يومًا على الأرض وانقرضت، خاصة إنسان نياندرتال وتوصل على سبيل المثال إلى أن الإنسان الأوروبي الحديث أقرب إلى إنسان نياندرتال من إنسان أفريقيا الأول، وهذا يعني أن تزاوجًا قد حدث بين نوعي (الإنسان العاقل) وبين إنسان نياندرتال عندما هاجر من أفريقيا قبل ٧٠,٠٠٠ سنة، واكتسب بذلك جينات من إنسان نياندرتال كان لها دور في تطوير جهازه المناعي.
ماذا لو قارننا دي إن إيه الخاص بنا بدي إن إيه أسلافنا؟
ربما تكشف مقارنة مثل هذه عن الكثير، إن الاختلاف الجيني بيننا وبين أسلافنا معناه أن صفات وجينات قد انتخبت على حساب صفات وجينات أخرى وبالتأكيد حدث هذا تحت ضغوط انتخابية قاسية، قد تتمثل في كوارث بيئية أو في أمراض مميتة. إن اكتشافات مثل هذه لو تمت سوف تؤكد على أننا في الحقيقة لسنا صنائع آبائنا من حيث جيناتهم فقط بل من حيث نكباتهم التي حفرت تأثيراتها في محتوانا الجيني ودفعت إلى أن نكون ما نحن عليه وليس أي شيء آخر.
إذن لم يبقَ إلا أن ننظر في المكان الصحيح وبالطريقة السليمة. وربما كان هذا ما فعله الباحثون الذين نشروا ورقة بحثية في أواخر شهر أكتوبر الماضي في مجلة نيتشر وحملت عنوان: يرتبط تطور جينات المناعة بالموت الأسود.
لقد أدرك هؤلاء الباحثون أن أحد أهم الضغوط الانتخابية هو الأمراض القاتلة، وربما لم يعرف تاريخ الجنس البشري قاتلًا سيئًا بغير رحمة مثل الطاعون. إن أكبر وفيات سجلها التاريخ تعود إلى أول الموجات الوبائية لجائحة الطاعون الثانية. حدثت الجائحة الأولى للطاعون في عام ٥٤١ م، أما الجائحة الثانية فتلتها بعد ٨٠٠ سنة تقريبًا، إذ بدأت في عام ١٣٤٦، وانتشرت في أفريقيا وأوروبا وآسيا، وقتلت ما يقرب من ٣٠٪ إلى ٥٠٪ من تعداد السكان. إذن فهذا هو الموضع الأنسب للنظر فيه، ضغط انتخابي عظيم، يعزز من أي جينات قد تحفظ وجود أصحابها أمام هذا القاتل العنيد.
كيف ننظر إذن؟
عمد الباحثون في هذه الدراسة إلى استخلاص عينات من دي إن إيه عظام وأسنان موتى مضى على وفاتهم ٧٠٠ عام تقريبًا ودفنوا في لندن وفي مختلف أنحاء الدنمارك. قارنوا دي إن إيه استخلصوه من متوفين ماتوا قبل الجائحة أو في أثنائها أو بعدها مباشرة، ونظروا إلى الجينات المسؤولة عن المناعة والتي يظنون أن أي ضغط انتخابي سوف يعمل عليها بالتأكيد. واكتشفوا بالفعل أربعة متغيرات تعزز جميعها من قدرات الجهاز المناعي وتكفل بالتأكيد لمن امتلكها قدرة أكبر على مقاومة البكتيريا المسببة للطاعون. ربما كان أحد أهم هذه المتغيرات جين يطلق عليه ERAP2 وهو يُشَفِّر بروتين تنتجه الخلايا المُلْتَقِمَةٌ الكبيرة، ويسهم في قطع بروتينات البكتيريا، ثم تعرض الخلايا الملتقمة بعد ذلك أجزاء من تلك البروتينات على سطحها منبهة الجهاز المناعي إلى وجود عدوى، ومحفزة إياه.
لكل شيء ثمن
إلى هنا تبدو القصة جيدة جدًا لكنها في الحقيقة لم تكتمل بعد. في كثير من الأحيان يكون المكسب على حساب خسائر أخرى. لقد منحت هذه المتغيرات الأربعة للأجيال اللاحقة وقاية من الطاعون لذلك انتُخِبت، لكنها زادت من فرص إصابتهم ببعض الأمراض المناعية كذلك. ترتبط هذه المتغيرات الجينية بداء كرون والتهاب المفاصل الروماتويدي والذئبة الحمراء. وهكذا يبدو أن لكل شيء ثمن.
في واقع الأمر نكتشف مع الوقت أن لا جينات جيدة بصورة مطلقة أو سيئة بصورة مطلقة، وأن تفضيل جين على الآخر وانتخابه راجع إلى ظروف بيئية. ربما لو كنا في عالم لم يتعرض لجوائح خطيرة مثل جوائح الطاعون، ما سادت هذه المتغيرات الأربعة التي نتحدث عنها.
في حقيقة الأمر يوجد مثال شهير جدًا يمكن أن نوضح به هذا الأمر. نعرف أنيميا خلايا الدم المنجلية، إذ يكون لكرات الدم الحمراء شكل معطوب يجعلها عرضة للتكسير، وهو ما يؤدي إلى الأنيميا والكثير من المضاعفات الأخرى. ونعرف حاليًا أن المصابين بهذا المرض أكثر كفاءة في مقاومة الملاريا وبالتالي في عالم تسود الملاريا فيه، يمثل مرض أنيميا خلايا الدم المنجلية مزية، وربما تُنتَخب الجينات المسؤولة عنه. وهذا هو ما نجده في حقيقة الأمر، إذ ينتشر مرض أنيميا خلايا الدم المنجلية بصورة أكبر بين الأفارقة في المناطق التي تستوطنها الملاريا، حيث انتُخِب على الأرجح لأنه مَثَّل فائدة للمصابين به.
هكذا إذن يبدو أن النكبات التي تعرض لها أسلافنا قد تركت ندوبها في جيناتنا، وجعلتنا أكثر تكيفًا مع العالم، إلا أن هذا لا يكون في أغلب الأحيان بلا ثمن!