منذ أكثر من 9000 عام قبل الميلاد، لم يكن العالم يعرف سوى بناء البيوت من أبسط الموارد المتاحة حينذاك كالطمي والأحجار، مع تطور احتياجات الإنسان، ورغبته في تحويل الموارد المتاحة إلى صور أكثر تقدمًا، توصل إلى الطوب، ومن ثم استطاع الوصول إلى سر صناعة أحد أكثر المواد صلابةً لتشييد المباني؛ الخرسانة.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الخرسانة عنصرًا أساسيًا في البناء كونها رخيصة نسبيًا وسهلة الصنع. ولك أن تتخيل أنها ثاني أكثر المواد استهلاكًا في العالم بعد الماء!
ومع ذلك نجد أن بصمتها الكربونية هائلة، فما لا يقل عن 8% من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون العالمية تأتي من صناعة الإسمنت وحدها، حيث يتم استخدام 30 مليار طن من الخرسانة كل عام. وهو ما يمثل 3 أضعاف ما كان عليه قبل 40 عامًا، والطلب على الخرسانة يتزايد بشكل كبير أكثر من الطلب على الصلب أو الخشب.
لماذا تمثل الخرسانة الحالية تحديًا بيئيًا؟
في أبسط صورها، تتكون الخرسانة التي تُستخدم في تشييد أغلب المباني والمنشآت في العصر الحالي من ثلاثة عناصر رئيسية، وهي:
الركام: الذي يشمل الرمل والصخور والأحجار، وهو أكثر عناصر الخرسانة تأثيرًا على جودتها، حيث يُضاف الركام بنسب وأحجام مدروسة إلى خليط الخرسانة لضمان الجودة.
الإسمنت: وهو مسحوق يعمل كمادة رابطة لذلك الركام ويضمن صلابة الخرسانة وزيادة تماسكها والتصاق مكوناتها جيدًا.
الماء: يمثل الماء عنصرًا هامًا في عملية صنع الخرسانة، حيث يوفر الوسط المناسب لتفاعلات التصلب اللازمة لضمان متانة خليط الخرسانة.
كيف تمثل تلك المكونات البسيطة خطرًا على البيئة؟
في حين أن خلط تلك المكونات في خطوات متتابعة ومدروسة لا ينتج عنه كميات من الغازات الدفيئة تجعله يمثل خطرًا على البيئة، إلّا أن المشكلة الحقيقية تكمن في طريقة تصنيع الإسمنت التي تنطوي على تسخين المكونات إلى درجات حرارة مرتفعة، ما يطلق كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون والعديد من الملوثات التي لا تضر بالبيئة فحسب، بل إنها تؤثر أيضًا على صحة الإنسان، على سبيل المثال: أول أكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين، وأكاسيد الكبريت، وغيرها من الملوثات الخطيرة.
ومن هذا المنطلق، توجهت أنظار الباحثين إلى تطوير صناعة الخرسانة لتواكب الاتجاه العالمي، بإيجاد حلول بديلة للحد من تلوث البيئة، ليظهر مع ذلك عشرات الأفكار لتحقيق ذلك الهدف.
خرسانة قابلة للانحناء
مع نشأة الضرورة الملحة بالتصرف السريع لحل مشكلة المناخ التي يواجهها العالم، بدأت الأفكار التي تطرح تسخير أكثر المواد إسهامًا في الإضرار بالبيئة، ثاني أكسيد الكربون، في صناعة الخرسانة، حيث توجهت أنظار الباحثين إلى إمكانية حبس ذلك الغاز في الخلطة الخرسانية واستخدامه كمكون رئيسي في الخرسانة نفسها؛ لجعلها أكثر متانة بل ويضيف لها خواص فريدة كقابليتها للطي.
تتطلب تلك العملية تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى كربونات معدنية مترسبة، تعزز قوة ومتانة الخرسانة كما تعطيها مرونة خاصة تجعلها تتميز بقدرتها على الصمود أمام الكوارث البيئية المفاجئة مثل الزلازل، كما تضمن صلابة البنية التحتية للمباني، ما يقلل بدوره تكلفة صيانتها على مدار السنين.
ولا تقتصر مميزات الخرسانة القابلة للطي على الحماية من الكوارث البيئية فحسب، بل إنها تضمن احتياج الهياكل الخرسانية والمنشآت المختلفة إلى كميات أقل من الإسمنت، ما يعمل بدوره على تقليل كمية انبعاثات الغازات الدفيئة التي تضر بالبيئة.
من حبسه إلى التقاطه
تمتلك الخرسانة القدرة على التقاط ثاني أكسيد الكربون من الهواء، لكنها قدرة بسيطة تمكنها فقط من التقاط كميات ضئيلة على مدار السنين، الأمر الذي دفع العلماء في جامعة بوردو الفرنسية إلى التفكير في تقنيات تعزز تلك القدرة، وبالتالي خفض الانبعاثات الناتجة عن الخرسانة بطريقة غير مباشرة.
توصل الباحثون إلى أن إضافة أجزاء نانوية من ثاني أكسيد التيتانيوم -المادة المستخدمة في صناعة واقي الشمس وأنواع الطلاء المختلفة- إلى خلطة الإسمنت في عملية تصنيع الخرسانة، يحسن من قدرة الخرسانة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون، ولكنه تحسن طفيف يعتمد على عمر التعرض للغاز ونسبة الماء إلى الأسمنت.
ورغم كونها مساهمة بسيطة في خفض البصمة الكربونية للخرسانة، إلا أن تلك المساهمة الطفيفة ذات تأثير كبير في حماية العالم على المدى الطويل.
استبدال بعض المكونات بأخرى أكثر استدامة
بالأخذ في الاعتبار أن الإسمنت البورتلاندي، وتحديدًا عملية تهيئة الحجر الجيري لإضافته إلى خلطة الإسمنت، هي أكثر خطوات تصنيع الخرسانة إسهامًا في الانبعاثات، ذهبت المحاولات إلى استبدال الحجر الجيري ببديل أكثر استدامة.
توجه الباحثون إلى استخدام النفايات التي تحتوي نسب عالية من أكاسيد الكالسيوم؛ مثل الرماد المتطاير والنفايات الناتجة عن انصهار المعادن في الصناعات المختلفة، وإحلالها كبديل للحجر الجيري التقليدي.
لا يمثل استخدام تلك البدائل وسيلة لخفض البصمة الكربونية للخرسانة فحسب، بل إنه تتيح أيضًا الفرصة للتخلص من تلك النفايات بشكل فعّال. ولكن، يكمن التحدي في استخدام تلك البدائل، وإضافتها إلى خلطة الإسمنت دون الإخلال بخصائصه وقدرته على التصلب، كونها تتسم بانخفاض محتواها من الكالسيوم مقارنة بالحجر الجيري.
ويجري تطبيق هذا الخيار منذ عدة سنوات على أرض الواقع. ولعل أبرز المدن القائمة على تلك البدائل المستدامة هي مدينة "مصدر" الإماراتية، التي تمثل أحد أكثر المجتمعات الحضرية تطبيقًا لمبادئ الاستدامة في العالم.
استخدام بدائل للوقود الحالي
جزء مهم لا يمكن أن غفله في صناعة الخرسانة، وهو الوقود الأحفوري المستخدم في صناعة الإسمنت والذي ينتج عنه أيضًا كميات هائلة من الانبعاثات، ما وجه الأنظار إلى ضرورة استخدام أنواع وقود بديلة صديقة للبيئة، ولعل أبرز الخيارات المتاحة هي: نفايات الزيت والبلاستيك والإطارات، إلا أن التلوث الناجم عن حرقها لا يزال يضر بالبيئة، وإن كان بنسبة أقل من الوقود الأحفوري.
على صعيد آخر، تتوجه الجهود إلى تسخير طاقة الكتلة الحيوية، التي يتم الحصول عليها من حرق النفايات الزراعية، مثل نفايات الخشب والنباتات، كبديل للوقود الأحفوري في صناعة الإسمنت.
وتتميز الطاقة الناتجة عن الكتلة الحيوية بكونها متجددة، كما تتميز بأنها محايدة للكربون، حيث يُفترض أن كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من استخدامها كوقود هي الكمية نفسها التي تمتصها النباتات في أثناء نموها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن احتراق الكتلة الحيوية ينتج عنه نفايات غنية بالسيليكات والألومينات، ما يجعلها مناسبة للاستخدام كمواد تكميلية في صناعة الإسمنت.
وفي حين تلمع العديد من الأفكار في سماء تطوير صناعة الخرسانة، وفي حين أن الكثير منها ما زال قيد الدراسة، ولا يزال تطبيقها ينحصر في نطاق محدود للغاية نتيجة التحديات التي تواجهها، إما في التقنية نفسها أو التحديات المادية التي تقف عائقًا أمام تطبيقها على نطاق أوسع، إلّا أن بعضها يتم تطبيقه بالفعل على أرض الواقع ليضيء لنا الطريق نحو تصنيع خرسانة أكثر استدامة.
فهل ننجح في تطبيق تلك الأفكار على نطاق أوسع في المستقبل القريب؟ هذا ما نطمح إليه في الوقت الراهن، بل يتوجب علينا الإسراع في تحقيقه من أجل حماية عالمنا المهدد بالخطر.