أجهزة طبية تفتقر للعدالة

منذ ثلاثة أعوام تقريبًا ظهرت إلى الضوء دراسة أشارت إلى أن الأنظمة التي تستخدمها السيارات ذاتية القيادة قد تخطئ في التعرف على أصحاب البشرة الداكنة. إذ يذهب الدارسون من معهد جورجيا التقني أن فرصة فشل أنظمة تلك السيارات في رصد المارة من أصحاب البشرة الداكنة أكبر بخمسة في المائة من فرصة الفشل في رصد أصحاب البشرة البيضاء. ورغم الانتقادات الكثيرة التي وُجِّهت إلى الدراسة ومدى صحتها إلا أنها أثارت جدلاً كبيرًا في ذلك الوقت.

في الحقيقة لم تكن تلك الدراسة الوحيدة التي تشير إلى هذا الأمر الخطير، وهو انحياز بعض التقنيات الحديثة وتمييزها لبعض البشر على البعض الآخر تمييزاً قد يكون على أساس عرقي.

يبدو كذلك أن تقنيات التعرف على الوجوه تخطئ في التعرف على وجوه أصحاب البشرة السوداء والبنية عشرة مرات أو مائة مرة قدر خطئها في التعرف على أصحاب البشرة البيضاء. 

ولم يقف الأمر عند ذلك، ففي عام ٢٠١٥ صنفت تقنية جوجل في التعرف على وجوه بعض الأمريكيين من أصول أفريقية على أنهم غوريلا! كما أن معدلات خطأ التقنيات في التعرف على نوع أصحاب البشرة (إذا كانوا ذكور أم إناث)، تزداد في حالة أصحاب البشرة الداكنة. 

كيف يحدث هذا؟

لا يمكن لأحد أن يتخيل آلة تتبنى التفريق العنصري، أو تنحاز لصالح الذكور على حساب الإناث أو تمارس تمييزًا طبقيًا واجتماعيًا! الغريب أن مثل هذه الأمور تحدث، أو هكذا أشارت الدراسات وقد ذكرنا مثالين.

في الحقيقة لا تعرف الآلة التمييز ولكن من الواضح أن انحيازات مصنعيها من البشر تتسرب إليها بوعي أو دون وعي منهم. في الواقع لا يكون هذا التمييز مقصودًا في الغالب، إلا أن مطور التقنية عندما يكون ذكرًا أبيض البشرة في مجتمع من بيض البشرة، فغالبًا ما يصنع تقنية جُرِّبت على البيض، كانوا هم عصبها الأساسي وبالتالي لا عجب أن ترتبك التقنية عند استخدامها مع بشر آخرين أو طرحها في العالم الواسع متعدد الأعراق والثقافات.

هكذا يبدو أن التقنية تشبه بصورة ما صانعيها، وربما لا يتبنى هؤلاء المصنعين معتقدات تمييزية فجة، إلا أنهم وبالرغم عنهم ينظرون إلى محيطهم القريب باعتباره مركز العالم، ويبنون تجاربهم وتقنياتهم عليه ولا بد أن يتسرب هذا الانحياز بالضرورة إلى صنيع أيديهم وعقولهم.

وماذا بشأن الأجهزة الطبية؟

عانى العالم خلال الأعوام الثلاثة الماضية من جائحة كورونا، والتي مثلت اختبارًا كبيرًا لإمكانياتنا المعاصرة وقدرتها الفعلية على مواجهة الكوارث. أمام تزايد أعداد المصابين بكوفيد-١٩ كان على القطاع الطبي أن يجد وسيلة لتصنيف المرضى سريعًا إلى محتاجين إلى أقنعة أكسجين، وآخرين لا يحتاجون إليها.

في سبعينيات القرن الماضي توصل العالَم إلى جهاز عظيم للغاية وهو جهاز قياس التأكسچ النبضي، يشبه الجهاز مشبكًا يوضع في أحد الأصابع، ويصدر ضوء من ترددين مختلفين وبحسب الطريقة التي يمتص بها هيموجلوبين الدم هذين الترددين، نستطيع معرفة مقدار تشبع هذا الهيموجلوبين بالأكسجين.

يُستخدم هذا الجهاز بصورة واسعة في غرف العمليات وفي غرف الرعاية المركزة، لكنه إبان جائحة كورونا اعتُبِر وسيلة سهلة وسريعة لفرز المصابين. ليس على مقدم الخدمة الطبية إلا أن يضع مشبك الجهاز في أحد أصابع المريض ويطالع القراءة، إذا كانت القراءة ٩٢٪ فأكثر، إذن فالمريض لا يحتاج على الأغلب إلى قناع الأكسجين وإذا جاءت أقل، يجب عليه أن ينتبه لهذا المصاب ويزوده بالأكسجين.

اقرأ أيضاً:  الدروس التي تعلمها بيل جيتس من فيروس كورونا

ثم كانت المفاجأة، عندما ظهرت ورقة بحثية في دورية الجمعية الطبية الأمريكية، تشير إلى أن هذه الطريقة ربما أدت إلى تضرر البعض خاصة من أصحاب البشرة الملونة دون قصد، وأخرت حصولهم على الأكسجين.

عندما اكتُشفت تقنية قياس التأكسچ النبضي، وجدوا أن ثمة أمور قد تؤثر في عمل الجهاز، منها لون الجلد وسماكته وطلاء الأظافر ودرجة الحرارة.. إلخ. وربما لذلك تشترط إدارة الغذاء والدواء الأمريكية تجريب أجهزة قياس التأكسچ النبضي على بعض الأصحاء قبل طرحها في السوق، ويُشتَرط أن يكون من بينهم ١٥٪ على الأقل من أصحاب البشرة الداكنة.

يقول مؤلفو الورقة البحثية إنهم رصدوا تفاوتاً في بعض الأحيان بين الأعراض التي يشكو منها بعض المرضى الملونين وقراءات الجهاز، ما دفعهم إلى التشكك في قراءات الجهاز ومن هنا جاءت فكرة البحث، مقارنة قراءات الجهاز بنسبة تشبع الأكسجين في الدم التي نحصل عليها معمليًا عن طريق تحليل غازات الدم. وحاولوا رصد ما أسموه "نقص الأكسجين الخفي" وعرَّفوه باعتباره نقص الأكسجين في الحالات التي تكون قراءة جهاز التأكسج النبضي فيها ٩٢٪ أو يزيد، في حين تكون قراءات المعمل ٨٨٪ أو أقل. 

وجد الباحثون أن نسبة أولئك الذين عانوا من نقص الأكسجين الخفي كانت أكبر بين ذوي البشرة السوداء والآسيويين وأصحاب الأصول الإسبانية، عند مقارنتهم بأصحاب البشرة البيضاء.

في الواقع لم يكن هذا هو البحث الوحيد الذي يشير إلى أمر كهذا، فقد أشار بحث نشر في مجلة نيو إنجلاند الطبية، إلى أن نسبة المرضى من ذوي البشرة السوداء الذين عانوا من نقص في الأكسجين لم يرصده جهاز التأكسچ النبضي، كانت أعلى بثلاث مرات من المرضى أصحاب البشرة البيضاء.

كيف نحل هذه الأزمة؟

في الحقيقة وجهت الشركات المصنعة انتقادات شديدة للدراسات من هذا النوع وشككت في منهجيتها، إذ أشارت إلى أنها لا تجرب أجهزتها على البيض فقط بل على شريحة متنوعة ولم تسجل مثل هذه الاختلافات أبدا. رد القائمون على الدراسة بأن أغلب دراسات الشركات تُجرى في داخل المعامل وبالتالي ربما تفتقر إلى البيانات الواقعية على الأرض.

في الأحوال كافة يبدو أن بعض تحيزاتنا قد تتسرب رغمًا عنا إلى تقنياتنا، وكي نحل هذه المشكلة نحتاج إلى أحد أمرين أو إلى كليهما معا. 

أولًا، نحتاج إلى فريق بحثي متنوع، يضم أعراق وثقافات وجنسيات مختلفة، ربما لن يخطر على بال رجل أبيض أن يجرب جهازه على امرأة سوداء البشرة، تضع طلاء للأظافر لكن المرأة السوداء سوف تفعل بالتأكيد. وثانيًا، نحتاج إلى أن تضم الشريحة التي نجرب عليها أي جهاز أو تقنية، أعراق مختلفة وتنوعات بقدر الإمكان.

عندئذ ربما لا نجد مثل هذه الانحيازات وتصبح أجهزتنا وخدماتنا وتقنياتنا أكثر عدالة وكفاءة، ربما علينا أن نراجع الكثير من معايير مناهجنا البحثية من أجل تجنب مثل هذه المشكلات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share