هل شعرت يومًا أنك تحب حيوانك الأليف إلى الحد الذي يجعلك ترغب في تواجد أكثر من نسخة واحدة منه؟ هذا بالتحديد ما دفع الطبيب البيطري الأمريكي "فيليب دوبونت" إلى دفع أكثر من 100 ألفًا من الدولارات في مقابل استنساخ كلبه المفضل "ميلفن" الذي تقدم به العمر. ولم يتصور "دوبونت" أن يكمل حياته دون وجوده بجانبه، فتوجه إلى إحدى مراكز الاستنساخ بكوريا الشمالية للحصول ليس فقط على نسخة واحدة مطابقة لـ"ميلفن"، بل على نسختين؛ "هنري" و"كين".
شهد العلم الحديث تطورات بالغة في مجال الاستنساخ على مدار العقود السابقة، فبعد أن كان الحديث عن الاستنساخ ضرب من ضروب الخيال العلمي الذي لا يُذكر سوى في الأفلام السينمائية، أصبحت تقنيات الاستنساخ ممكنة إلى حد بعيد، فأُنشئت المراكز المتخصصة في تقنيات استنساخ الحيوانات، , والتي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية، التي كانت تشكك من الأساس في مدى توافق عمليات الاستنساخ مع الضوابط الأخلاقية التي يجب أن تخضع لها الأبحاث العلمية وتطبيقاتها.
علم الاستنساخ: نشأته وتطوره
مع أن الاستنساخ يبدو مصطلحًا علميًا يتعلق بالتقنيات المتطورة، إلّا أن الاستنساخ عملية تحدث بشكل طبيعي في العديد من الكائنات الحية، ولعل أبرز مثال حي لذلك هي التوائم المتطابقة التي تنتج عن انقسام بويضة مخصبة واحدة إلى جزئين أو أكثر، ليكمل كل جزء انقسامه على حدة، لتكوين أجنة متطابقة تحمل الحمض النووي نفسه.
وفي حين تتفق تلك العملية مع عملية الاستنساخ في أن جميع الأجنة تحمل الحمض النووي نفسه، إلّا أنها تختلف في كونها لا تحمل الحمض النووي للخلية الأم فقط، بل إنها نتجت من الأساس من دمج الحمض النووي من مصدرين مختلفين؛ البويضة الأصلية والحيوان المنوي الذي خصبها.
لا تقتصر عملية الاستنساخ الطبيعية على التوائم المتطابقة فقط، بل إنها تحدث أيضًا بشكل طبيعي في بعض النباتات والكائنات وحيدة الخلية، مثل البكتيريا التي تتكاثر لاجنسيًا، عن طريق إنتاج نسخ طبق الأصل من الخلية الأم.
نشأ علم الاستنساخ بمحاكاة تلك العمليات التي تحدث في الطبيعة، ليبدأ باكتشاف العالم الألماني "هانس دريش" طريقة لفصل خلايا جنين قنفذ البحر في أثناء انقسامها، ليكمل كل جزء نموه وانقسامه على حدة، مكونًا جنينًا منفصلًا، لتصبح أول عملية إنتاج توائم معمليًا في العالم.
استمرت تجارب الاستنساخ بعد ذلك مرورًا بدراسة إمكانية تطبيق التجارب نفسها على الفقاريات، واكتشاف تقنيات نقل الحمض النووي للخلايا، ووصولًا إلى نجاح عمليات استنساخ الثدييات، وأبرزها استنساخ النعجة "دوللي" في عام 1996.
لم تتوقف تجارب الاستنساخ عند هذا الحد، بل استمرت في التطور لتشمل استنساخ عدد أكبر من الحيوانات، خاصًة تلك المهددة بالانقراض، حتى توصل العلم إلى إمكانية استنساخ أجنة بشرية.
هل يلزم تطابق الخلايا المستنسخة مع الخلية الأم؟
مع منطقية الإجابة بالإثبات عن ذلك التساؤل، ومع أن النسخ الناتجة عن عملية الاستنساخ تحمل الحمض النووي نفسه الذي تحمله خلايا المتبرع، إلّا أنها قد لا تكون متطابقة تمامًا في الشكل. على سبيل المثال، فإن أول تجربة ناجحة أجراها الباحثون لاستنساخ قطة، أحدثت ضجة بالغة في الأوساط العلمية، حيث أظهرت القطة المستنسخة التي أُطلق عليها "سي سي" اختلافًا كبيرًا في اللون والمظهر الخارجي عن القطة الأم التي منحت الحمض النووي المستخدَم في عملية الاستنساخ.
يُعزى تفسير ذلك إلى حقيقة أن المظهر الخارجي ولون القطط لا يعتمد فقط على التركيب الجيني لخلايا القطة، بل يعتمد أيضًا على ظاهرة بيولوجية أخرى تتضمن تعطيل بعض الجينات في الكروموسومات، في حين تظل جينات أخرى تعمل لتعطي اللون والمظهر الخارجي المميز لتلك القطة، حيث يعتمد تعطيل تلك الجينات على التأثيرات البيئية المحيطة، وليس على التركيب الجيني فحسب.
أنواع الاستنساخ
- الاستنساخ الجيني
يُطلق عليه أيضًا "الاستنساخ الجزيئي"، ويشير هذا المصطلح إلى عزل الجينات من الحمض النووي للخلايا المعنية وإكثار تلك الجينات عن طريق حقنها في ناقل يتمكن من إعداد نسخ لا حصر لها منها، دون الإخلال بتسلسل الحمض النووي الأصلي.
يمكن استخدام تلك النسخ الجينية الناتجة في العديد من التطبيقات، مثل تحليل تسلسل الحمض النووي، ودراسة وظيفة كل جين، وخاصةً البروتينات التي يرمز لها كل جين على حدة، ما يفتح مجالًا للباحثين لتحقيق فهم أعمق لتلك الوظائف، كما يفتح مجالًا لإمكانية التحكم في تلك الوظائف في الحالات المرضية المتعلقة بها.
تعتمد عملية الاستنساخ الجيني بشكل كبير على إنزيمات القطع (Restriction Enzymes) التي حاز مكتشفوها على جائزة نوبل في الطب وعلم وظائف الأعضاء في عام 1987. أحدث اكتشاف الثلاثي "سميث- أربر- ناثان" لتلك الإنزيمات طفرة في تقدم علم الاستنساخ الجيني، حيث تعمل تلك الإنزيمات على قطع تسلسل الحمض النووي في مواضع محددة، ما يمكن الباحثين من عزل الجينات المعنية لاستخدامها في عملية الاستنساخ الجيني.
- الاستنساخ الإنجابي
الذي يُطلق عليه أيضًا "الاستنساخ التكاثري"، ويهدف هذا النوع إلى استنساخ حيوانات كاملة، وليس مجرد إكثار للجينات كما هو الحال في عملية الاستنساخ الجيني. يمكن إجراء عملية الاستنساخ الإنجابي إما عن طريق:
- نقل الحمض النووي للخلايا الجسدية
وهي الطريقة التي اُستخدمت لاستنساخ النعجة "دوللي" التي أحدثت ضجة بالغة، ليس على الصعيد العلمي فقط، بل أيضًا على الصعيد الديني والمجتمعي. تعتمد هذه الطريقة على تفريغ البويضات من المادة الوراثية التي تحتويها، واستبدالها بمادة وراثية أخرى معزولة من خلية جسدية، مثل خلايا جلد الكائن المراد استنساخه.
تُزرع تلك البويضة -الحاملة للحمض النووي الجديد- في أنبوبة اختبار، وبعد الوصول إلى طور معين من النمو والانقسام، تُنقل تلك الخلايا المنقسمة التي تمثل الجنين إلى رحم أنثى ليكتمل نموه حتى وقت الولادة.
ومع أن خطوات عملية الاستنساخ الإنجابي تبدو منطقية وعملية إلى حد كبير، إلّا أن نسب النجاح في الحقيقة ضئيلة جدًا. على سبيل المثال، فإن زراعة أكثر من 277 من النِعاج بمعهد "روزلين" في جامعة "إدنبرج" باسكتلندا، لم ينجح سوى في استنساخ نعجة واحدة فقط، وهي النعجة الشهيرة "دوللي".
- انقسام الأجنة
تعتمد هذه الطريقة على تخصيب البويضة بحيوان منوي في المختبر، لتُزرع البويضة الملقحة في أنبوبة الاختبار، ثم تُترك لتكمل انقسامها حتى تتكون أربع خلايا متطابقة. في هذه المرحلة، يمكن فصل الخلايا الناتجة لتنمو كلٍ منها بشكل منفصل، وتزرع في رحم أنثى لتكمل نموها.
تختلف تقنية انقسام الأجنة عن تقنيات الاستنساخ الأخرى في كونها لا تحمل الحمض النووي للخلية الأم وحدها، بل تتضمن الحمض النووي للبويضة الأصلية والحيوان المنوي معًا، فيما يحاكي آلية تكون التوائم المتطابقة طبيعيًا.
- الاستنساخ العلاجي
وهو مصطلح يشير إلى استنساخ أجنة بشرية بنفس طريقة الاستنساخ الإنجابي، عن طريق عملية نقل الحمض النووي للخلايا الجسدية، ولكن ليس بهدف تخليق أجسام بشرية مكتملة، بل لاستخلاص الخلايا الجذعية الجنينية التي تحمل نفس الحمض النووي للخلية المانحة. تُستخدم هذه الخلايا الجذعية لأغراض علاجية، كما تُستخدم في الدراسات المعنية بفهم آليات حدوث أمراض بعينها.
التطبيقات العلمية للاستنساخ
تطبيقات الاستنساخ في مجال الإنتاج الغذائي
لا تقتصر التطبيقات العلمية للاستنساخ على المجالات الطبية والبحثية فحسب، بل إن تقنيات الاستنساخ تُستخدم أيضًا في المجال الزراعي، حيث تُستخدم في إنتاج كميات كبيرة من شتلات النباتات في مساحات محدودة، كما أنها تضمن جودة تلك النباتات المستنسخة ومطابقتها للنبات الأصلي في الصفات، ما يحافظ على الأصول الوراثية لتلك النباتات معمليًا.
تُستخدم تقنيات الاستنساخ أيضًا في تعزيز الإنتاج الحيواني، حيث تسمح بتسريع عملية إكثار المواشي، كما أنها تسمح باختيار الحيوانات التي تتميز بكونها أكثر إنتاجية وأكثر صحة لاستنساخها، ما يضمن استهلاك أقل لهرمونات النمو وللمضادات الحيوية في أثناء تربية تلك المواشي.
الاستنساخ والمعايير الأخلاقية
يثير مصطلح "الاستنساخ" جدلًا كبيرًا بمجرد ذكره، سواء على المستوي العلمي أو الديني أو المجتمعي.
ومع أن الاستنساخ الجيني أصبح تقنية مقبولة وتُستخدم بشكل كبير في جوانب ومجالات عدة، إلّا أن الاستنساخ الإنجابي والاستنساخ العلاجي، ما زالوا يلاقون معارضة كبيرة ورفض عام من الكثيرين.
فبحكم الإمكانية النظرية لتخليق كائن بشري مكتمل مطابق للحمض النووي للخلايا المانحة، فإن ذلك الافتراض يتعارض مع المفاهيم الاجتماعية والدينية المتعلقة بهوية الإنسان وكرامته.
وفي حين يرى البعض أهمية بالغة لاستخدام الاستنساخ العلاجي، الذي يتضمن استخلاص الخلايا الجذعية من الأجنة ثم تدمير تلك الأجنة، في إنهاء معاناة العديد من المرضى، إلّا أن البعض الآخر يرى أن تدمير تلك الأجنة يعارض العديد من القواعد الأخلاقية، كما أنه يخرق الحقوق الإنسانية.
أخيرًا، فإن تقدم التقنيات العلمية فتح مجالًا واسعًا لتطور علم الاستنساخ بشكل بالغ في العقود الأخيرة، ولكن مع التطبيقات العلمية والمجالات العديدة التي يساهم علم الاستنساخ في تطورها، تبقى التساؤلات المعنية بشأن احترام الأمر للمعايير الأخلاقية جانبًا هامًا لا يمكن إغفاله. كما يظل الغموض يحيط بشأن مستقبل استخدام تلك التقنيات في استنساخ البشر.
