هل هناك أي قيمة لـلبول البشري؟ .. قد يجيب غالية الناس على هذا السؤال بالضحك أو بالسخرية، ولكن في حقيقة الأمر إن الاهتمام بالبول البشري حقيقة ضاربة في تاريخ الحضارة البشرية، فقد كان للبول قيمة كبيرة في روما القديمة، واعتقد الرومان أن البول يحتوي على كميات هامة من الأملاح المعدنية، كالبوتاسيوم والفوسفور، واستخدموه كنوع من أنواع معجون الأسنان الفعالة؛ لإيمانهم بأنه أفضل وسيلة للحفاظ على بياض الأسنان وحمايتها من التسوس. كما استخدموه في غسل الثياب التي تحمل بقعاً مستعصية، فأصبح البول مجال للتجارة التي حققت إيرادات مالية ضخمة، ما جعل الإمبراطور نيرون يفرض ضريبة على التجار عرفت بـضريبة البول.
ومؤخرًا تجدد الاهتمام العالمي باستغلال البول البشري في العديد من التطبيقات الحديثة، وهناك العديد من الأفكار الجديدة التي تحاول الاستفادة القصوى من البول البشري بطرق متعددة، ويدور معظمها حول مجال إنتاج الطاقة الجديدة والمتجددة، وإنتاج وقود للسيارات فضلا على إنتاج السماد لتسميد النباتات في المدن وفى المزارع. وقد يبدو مبدأ الحصول على طاقة كهربية مصدرها البول البشرى مقززا للوهلة الأولى، غير أن مثل هذه الأفكار الغريبة غير الاعتيادية قد تغير حياة سكان البلدان النامية والفقيرة إلى الأفضل في المستقبل القريب، وقد لا نجد أي غضاضة تذكر في الحديث عن مشروع كهذا بعد أن أقدم بيل جيتس، أغنى شخص في العالم، على شرب ماء مصفى من فضلات وبول البشر، وغرد يومها على حسابه في تويتر: «من مرحاضكم إلى كأسي»، في خطوة خصص لها بعضا من ثروته لمواجهة مشكلة افتقار بعض دول افريقيا إلى المراحيض والمياه.
بعد دراسة استغرقت أكثر من سبعة أعوام تمكن فريق بحثي مُكوّن من حوالي عشرين باحثًا من جامعة ألبرتا من تحديد التركيبات الكيميائية المتواجدة في البول لدى الإنسان. وكشفت الدراسة عن تواجُد ما لا يقل عن 3079 مُركّب في البول، تقريبًا 72 منها تُصنّع من البكتيريا، 1453 من الجسم نفسه، و2282 آخرين مصدرهم الغذاء، الأدوية، أو الآثار البيئيّة. وأكدت الدراسة أن البول سائل حيوي مُعقّد بشكلٍ لا يُصدّق، مقارنةً بسوائل الجسم الأخرى. وتقع المركبات الموجودة بالبول تحت 230 صنف كيميائي مختلف.
خلايا الوقود الميكروبية
بدء علماء بريطانيون بتوسيع نطاق ابتكار تقنية جديدة تحول البول إلى طاقة كهربية لتوفير الكهرباء لقرى نائية وفقيرة. وتوجت الأبحاث بتطوير نوع جديد من خلايا الوقود الميكروبية قادر على تحويل البول إلى كهرباء. وقال العلماء في ورقتهم البحثية المنشورة في دورية إليكتروكيميكا أكتا (Electrochimica Acta) انها أصغر وأقل تكلفة، وأكثر قوة من خلايا الوقود الميكروبية الموجودة حاليا. وأثبت الباحثون أن خلايا الوقود الميكروبية فعالة في إنتاج الطاقة الحيوية المتجددة من البول، وتعمل هذه الخلايا باستخدام العمليات البكتيرية الطبيعية التي تقوم بتحويل المواد العضوية إلى كهرباء.
وهناك العديد من أنظمة الطاقة الحيوية الأخرى التي تعمل على الهضم اللاهوائي، والتخمر، والتغويز (التحويل إلى غاز). ويستخدم باحثون في المكسيك البول لإنتاج الطاقة ايضًا، وقد اكتشف الباحثون أن كمية البول التي ينتجها شخصان بالغان في اليوم الواحد تكفي لإنتاج كمية من الغاز الطبيعي تكفي لطهي الطعام وتسخين المياه في منزل يسع 4 أفراد لمدة أسبوع تقريبًا. ولكن تتميز خلايا الوقود الميكروبية بأنها فعالة وغير مكلفة في التشغيل، وتعمل بشكل جيد في درجة حرارة الغرفة وتحت الضغط الجوي العادي فضلا عن أنها لا تولد كميات كبيرة من المخلفات.
انها ليست المرة الاولى التي يعتمدها العلماء للاستفادة من خصائص البول في توليد الكهرباء. فقد طور الباحثون خلايا وقود ميكروبية تستخدم البكتيريا التي تتغذى على البول وحولوها الى كهرباء من قبل، وفي عام 2013م استخدموا 24 خلية من خلايا الوقود الميكروبية ليثبتوا ان البول يمكن ان يولد كهرباء تكفي لتشغيل هاتف محمول.
وقد قام طلاب من المملكة المتحدة باختبار مرحاض مبتكر يولد الكهرباء، واستخدموا 288 خلية وقود ميكروبية لتحقيق هذا الغرض، ثم طورها عن طريق استخدام ألف خلية. ومن المقرر أن يستخدم هذا المرحاض قريبا لإضاءة مناطق مظلمة في مخيمات اللاجئين. ولقد صمم الباحثون مباول لإنتاج الكهرباء لتوليد إشارات واي فاي وتوفير إنترنت في الأماكن النائية.
يعول كثيرون في دول مختلفة من العالم على مصدر الطاقة البديلة هذا، ففي نيجيريا نجحت 4 تلميذات بإنتاج مولد يحول البول إلى طاقة غير أنهن اعتمدن تقنية أخرى للقيام بذلك وهي تقنية فصل الهيدروجين عن باقي عناصر البول، ويتم استغلاله في تشغيل مولد للكهرباء. هذه الطريقة أنتجت 6 ساعات من الكهرباء بلتر واحد من البول فقط، في خطوة أثارت ضجة في نيجيريا حينها لأهميتها في بلد يعيش ثلثي سكانه تحت خط الفقر. وقام طلاب لبنانيون بتنفيذ نفس الفكرة، وقوبل ابتكارهم بحفاوة بالغة في ظل ظروف تراكم النفايات، وتواجد عدد كبير من اللاجئين على أرضهم.
أما في هولندا فتعدت أبحاث مماثلة المرحلة التجريبية، ويتم استغلالها بالفعل في محطة لمعالجة المياه شمالي البلاد لكن هؤلاء يعتمدون تقنية ثالثة لاستخراج الطاقة من البول عن طريق استخلاص معادن عدة مثل الفوسفور والسيليكون والنيكل وغيرها لاستغلالها مباشرة لاستخلاص الطاقة.
وتعتبر خلايا الوقود الميكروبية أفضل من جميع التقنيات الأخرى، ويعتبر التصميم الجديد أرخص وأقوى من النماذج التقليدية، ويتغلب على عدد كبير من السلبيات التي واجهت التقنيات الأخرى، فهي رخيصة التكلفة ومصنوعة من مواد بسيطة كالقماش والكربون، ولتسريع تفاعلها، يستخدم الجلوكوز وألبومين البيض - البروتين الموجود في بياض البيض - للتحفيز. ويشير الباحثون إلى أن هذه هي مقومات نموذجية لاستغلال فضلات الطعام، وتوفير بديل بأسعار معقولة بدلا من استخدام القطب البلاتيني السالب المستخدم في خلايا الوقود الميكروبية التقليدية.
وتتغلب التقنية الجديدة أيضا على واحدة من الانتقادات الكبيرة لخلايا الوقود الميكروبية الأخرى مثل انخفاض إنتاج الطاقة؛ حيث تمكن العلماء بالفعل من زيادة انتاج الطاقة بنسبة 10 مرات من خلال مضاعفة طول الأقطاب في خلية الوقود، وتعززت هذه الميزة بمزيد من التراص للخلايا معا في ثلاثيات.
شحن الهاتف الذكى بالبول البشرى
طور الباحثون في جامعة غرب إنجلترا نظام شحن جديد للهاتف الذكي يعتمد على تكنولوجيا خلايا الوقود الميكروبية باستخدام البول البشرى، وأوضح الباحثون أنه يمكن تشغيل الهاتف لمدة 3 ساعات كاملة بكمية ضئيلة من البول البشرى لا تتعدى 600 مليليتر. ويوفر نظام الشحن الجديد إمكانات هائلة لتمكين الناس من البقاء على اتصال في المناطق النائية التي تضعف فيها الشبكة فقط باستخدام البول الذي يعد نوعا من الوقود المتاح بشكل مستمر. وفى الدراسة الجديدة أكد الباحثون على نجاح التجارب الخاصة باستخدام البول كمصدر للطاقة التي يمكن من خلالها شحن الهواتف الذكية، وهذا الأمر سيساعد في تقليل الاعتماد على الطرق التقليدية في الشحن والحصول على الطاقة اللازمة لشحن الأجهزة المتنقلة المختلفة في الأماكن النائية.
ويرى الباحثون أن خلايا الوقود الميكروبية التي تعتمد على البول من الممكن أن تكون مصدرا كبيرا للطاقة في البلدان النامية، وخاصة في المناطق الفقيرة والريفية، ويمكن أن تحدث فرقا حقيقيا من خلال إنتاج الطاقة المستدامة بطريقة آمنة، فضلا عن أنها لا تسبب التلوث البيئي.
"تبول من أجل العلم"
تمكن فريق علماء من جامعة "جينت" البلجيكية من اختراع جهاز لمعالجة مياه الصرف يحول البول إلى مياه نقية للشرب وسماد باستخدام الطاقة الشمسية. ويستخدم النظام غشاء خاصًا يقول العلماء إنه أكثر ترشيدًا لاستخدام الطاقة ويمكن تطبيقه في المناطق غير المتصلة بشبكات الكهرباء، والمناطق الريفية في الدول النامية. وأكد "سيباستيان ديريز" الباحث بالجامعة أنهم تمكنوا من إنتاج سماد ومياه شرب من البول باستخدام عملية بسيطة والطاقة الشمسية عن طريق تجميع البول في خزان كبير وتسخينه باستخدام غلاية تعمل بالطاقة الشمسية قبل أن يمر عبر غشاء يفصل الماء عن أملاح البوتاسيوم والنيتروجين والفوسفور.
كما أقدم فريق جامعة "جينت" إلى ابتكار آلة تعمل بالطاقة الشمسية تحول البول إلى بيرة ويتوقع أن تكون قطعة فريدة من نوعها وبالغة الأهمية. ويتكون الجهاز المطور من غلاية تعمل بالطاقة الشمسية وأغشية من أجل تحويل البول إلى مياه للشرب، ليتم استخدام هذه المياه المعاد تدويرها وتحويلها إلى بيرة. ونظرا لكون الآلة الجديدة المستخدمة لمعالجة البول لا تحتاج إلى كهرباء، فيمكن توريدها إلى جميع أنحاء العالم بأقل تكلفة ممكنة، حيث يمكن للبلدان التي تعاني من الجفاف لاستفادة أكثر من غيرها من هذا الابتكار.
تعتمد فكرة الآلة الحديثة على فصل عناصر البوتاسيوم والنتروجين والفوسفور، وهذه الفكرة هي مفتاح التحويل الناجح الذي تعتمده الآلة. ويهدف المخطط القادم إلى تثبيت هذه الآلات المطورة بشكل أكبر في ملاعب كرة القدم ومراكز التسوق والمطارات.
وتحت شعار "تبول من أجل العلم" عرض فريق البحث آلة تعمل بهذه الطريقة في مهرجان للموسيقى والمسرح مدته عشرة أيام في وسط "جينت"، وتمكنوا من استخلاص ألف لتر من ماء الشرب من بول المحتفلين.
وقال باحث في فريق عمل الجامعة، إن الهدف هو نشر نسخ أكبر حجما من هذه الآلة في الملاعب الرياضية والمطارات وأيضا الوصول بها إلى المجتمعات الريفية في الدول النامية التي تعاني من نقص إمدادات مياه الشرب والأسمدة. وأوضح أن التركيز الأكبر يجري حاليا على إنتاج البيرة من هذه الآلة لتوزيعها ضمن مهرجان "جينت" للموسيقى، وأنهم أطلقوا على هذا الحدث "من المصارف الصحية إلى صانع البيرة" (From Sewer To Brewer).
البول البشري وقود للسيارات
أجرى فريق بحثي في جامعة "نارينو" الكولومبية، بقيادة "خوان لوزادا"، اختبارًا لسيارة مطورة من طراز "فورد ميركوري" موديل 1978، تم تحويلها لتعمل بالبول البشري كبديل للوقود التقليدي. وقطعت السيارة مسافة يبلغ طولها 600 كيلومتر، باستخدام البول البشري. وأكد "لوزادا" أنه وفريقه البحثي عكفوا على مدار عامين كاملين لتحقيق هذا التعديل على محرك السيارة ليعمل بالبول. ويستند هذا الابتكار في الأساس إلى عملية معالجة للبول باستخدام وحدتين يتم تنشيطهما من خلال مفتاح تشغيل، مشيرًا إلى أنه يتم الحصول على الهيدروجين من خلال التحليل الكهربائي للبول، ثم إعادة استخدامه بشكل خاص ليعطي الطاقة المتعارف عليها لدى النسخة الأولى من المحرك قبل التطوير. ويعاني الفريق البحثي من بعض المشكلات الفنية، والتي أدت إلى عدم الاعتماد الكلي على البول كمصدر لوقود السيارات، حيث تعتمد السيارة المعدلة في بعض الأوقات على البنزين العادي ولكن نجح العلماء في إنتاج الطاقة النظيفة من البول التي لا ينتج عنها أول أكسيد الكربون، ومنعوا وصول هذه المخلفات العضوية إلى مصادر المياه الطبيعية.
وقال "لوزادا" إن هذه السيارة التجريبية يمكن أن تعمل في المستقبل بالفضلات، مضيفًا أن الفكرة هي تطوير "سيارة هجين تستخدم أنواعا مختلفة من مصادر الطاقة بما في ذلك البول والفضلات والوقود التقليدي ولكن بكميات أقل".
ومما لا شك فيه إن هذه الأفكار العملية غير التقليدية قد توفر حلولا غير مسبوقة للتخلص من النفايات البشرية، وإعادة تدويرها واستغلالها بشكل غير مسبوق لتوفير الماء النظيف والطاقة والحفاظ على البيئة، وإذا تبنت بعض الشركات الناشئة في بلادنا هذه التقنيات الحديثة، فقد تحقق أرباحا كبيرة من هذه التقنيات، فضلا عن توفير دورات مياه عمومية في الأماكن شديدة الاحتياج لها، مما يحقق الفائدة لجميع الأفراد وللمجتمع، ويحل مشاكل مزمنة بطريقة علمية فريدة.