هل سيصطدم مذنب آخر بالأرض كما حدث مع الديناصورات؟ هل مازال الإنسان يتطور؟ وإن كان بالفعل، فكيف سيكون شكله فيما بعد؟ هذه الأسئلة غيرها الكثير ممن يصعب علينا الإجابة عنها لأنها لم تحدث بعد. فبعكس الماضي الذي تم تسجيله فيمكنك معرفة أسراره بسهولة، المستقبل سيظل غامضًا إلا إذا جاء بشر من المستقبل ليحكوا قصصهم!
بالطبع، ما ذكرته للتو خطأٌ فادح؛ فأصبح بإمكاننا الآن تصور المستقبل بدقة عالية للغاية، فيمكننا بسهولة معرفة مسار المُذنب قبل وصوله للأرض بعقود، كذلك نستطيع معرفة وقت حدوث كسوف الشمس لـ500 عام قادمة بدقة تصل للدقيقة، وغيرهما من المزيد والمزيد من التنبؤات!
فما هي إذا هذه التقنية التي ستزيح الستار عن المستقبل؟
العلم بين يدي نظم المحاكاة
أنظمة محاكاة الكومبيوتر "Computer Simulations"، هي برامج على أجهزة الحاسوب المتطورة تُحاكي نماذج مجردة لأنظمة معينة. فمثلًا عندما يريد علماء الفلك معرفة كيف تنشأ النجوم، يُصممون نموذج لشكل الكون ويضعون قواعد هي في الواقع، عبارة عن قوانين الفيزياء والكيمياء التي تحكم هذه البيئة، ومن ثم يعطون البرنامج البيانات التي يحتاجها والتي يعرفونها عن النجوم وعند تشغيله يحصلون على نتائج في شكل أرقام، رسم بياني، أو حتى صور متحركة.
يستخدم العلماء أنظمة المحاكاة في الكثير من المجالات، مثل: الفيزياء الفلكية، الكيمياء، الأحياء، الهندسة، العلوم الإجتماعية وغيرها. وقد أصبحت مهمة جدًا في الأوقات التي لا يستطيع العلماء فيها تنفيذ تجربة معملية على أرض الواقع بسبب التكلفة العالية أو عدم وجود الإمكانيات أو التكنولوجيا الكافية. ولكن، هذا لا يعني أن تكلفة الحواسيب الخارقة “Super Computers” قليلة، فمثلًا الحاسوب الخارق التابع لناسا، الذي يحتل المركز الثالث عشر عالميًا من حيث السرعة، لديه منشأة كاملة خاصة به ويُقدر ثمنه بحوالي 50 مليون دولارًا.
يقول د/ "كريستوف آدمي" -أستاذ علم الأحياء الدقيقة والوراثة الجزيئية بجامعة ولاية ميشيغان- في إحدى مقالاته على موقع The conversation: "في العلوم التطورية، الحاسوب هو عبارة عن آلة تنبؤية.. تجاوب على أسئلة مثل ماذا سيحدث في ظل هذه القواعد، في حالة أنني بدأت في هذا العالم بهذه الشروط؟ "
تُتيح لنا عمليات المحاكاة الخاصة بالعلوم التطورية اختبار الفرضيات، لكنها لا تسأل أو حتى تجيب عن الأسئلة. نحن نسأل "ماذا لو"، ويستجيب الكمبيوتر بـ"في هذه الحالة، هذا هو ما ستحصل عليه".
يساعدنا الكمبيوتر على النظر إلى المستقبل مع سرعة مذهلة، وفي علوم الأحياء التطورية هذا تمامًا ما هو المطلوب.
مستقبلنا على شاشة الحاسوب
لفريق من العلماء الذين يدرسون سمات البشر وكيف تتغير على مر العصور، يصبح استخدام أنظمة المحاكاة أمرًا لا مفر منه. يصمم هذا الفريق محاكاة لشكل المجتمعات البشرية في الماضي، وبوضع المعاملات الصحيحة يمكنهم معرفة كيف تأثرت هذه المجتمعات ببيئتها في الماضي وكيف شكَّل هذا مسار تطورها. لتصبح أنظمة المحاكاة هنا آلات للسفر إلى الماضي؛ ويسمى هذا النوع من المحاكاة الـ(Coalescent Simulation).
ولكن ماذا إذا تركنا هذا الحاسوب يعمل، ويتقدم بالزمن، لا ليقف عند الحاضر، بل نتركه يعمل إلى أن يرينا المستقبل في عملية تُعرف ب "Forward-time Simulation"
بالطبع، الأمر أشبه بالخيال العلمي! أن ترى مستقبل البشرية على شاشة حاسوب شيء غير معقول. ولكن الفكرة أبسط من ذلك بعض الشيء. تخيل أنّ نظام المحاكاة لعبة افتراضية مشابهة تمامًا للواقع؛ يمكنك التحكم بمرور الوقت فيها، ترجع بالزمن فترى كيف كان البشر في الماضي، تتقدم بعقارب الساعة للأمام فترى كيف سيبدون في المستقبل.
حسنًا.. ماذا يُخبئ لنا المستقبل
لأن النتائج التي نحصل عليها من أنظمة المحاكاة تعتمد على الكثير من العوامل المتغيرة، خاصةً في مجالات واسعة مثل البيولوجيا التطورية، لا يُعطينا الحاسوب إجابةً محددةً، بل احتمالات مختلفة ولكن بدقة عالية.
أحد تلك الاحتمالات القوية التي وصل لها العلماء، هي أن البشر سيستمرون في التطور وبشكل أسرع عن ذي قبل؛ فعن طريق العمل على بيانات تم تجميعها من برنامج "Framingham Heart Study"، وجد فريق بقيادة ستيفن ستيرنز -عالم الأحياء التطورية بجامعة ييل- وجد أن خصائص معينة مثل قِصر القامة والسمنة والذكاء هي التي ستكون مهيمنة في المستقبل.
وقد حصلت برديس سي. سابتي من جامعة هارفارد وبعض زملائها، على نتائج توافق ما وصل له فريق ستيفن ستيرنز، فقد وجدوا أن أجزاءً كثيرة من الجينات البشرية تعرضت لتغييرات حديثة زادت من متوسط عمر الإنسان وحسّنت فرص الإنسان للبقاء على قيد الحياة والتكاثر، مما يشير إلى أن الإنتقاء الطبيعي في البشر ما زال يعمل وبصورة جيدة، ولكن ببطئ!
ركز د/ستيرنز و د/سابتي في دراستهم على التغيرات البيولوجية في الجينات مما جعل نتائج المحاكاة خاصتهم محددة، ولكن عندما أضاف دوغلاس ايبانك، -عالم الديموغرافيا في جامعة بنسلفانيا- معاملات اجتماعية وبيئية في الدراسة، وجد أن العوامل الثقافية والإجتماعية لها تأثير أكبر من الإنتقاء الطبيعي على الأجيال القادمة، وهي قد تكون سبب النتائج التي وصل إليها د. ستيرنرز.(5)
لذلك كلما زادت المعاملات التي يضعها العلماء في محاكاة الحاسوب وأصبحت أكثر شمولية، كلما أصبحت النتائج أقرب للواقع. ولكن سيحتاج هذا الأمر إلى حواسيب أسرع وأقوى، وبالطبع أعلى تكلفة.
لايقتصر استخدام المحاكيات على دراسة التطور البيولوجي في المستقبل، بل البعض يدرس تغييرات بعوامل مُعقدة مثل الدراسات الاجتماعية أو حتى التنبؤ بتطور أزمة المناخ، وعليه هناك العديد من المحاكيات التي تحاول تصور مستقبل الأرض الملتهبة تحت تأثير الاحتباس الحراري.
على سبيل المثال، قام فريق بقيادة ستيف نيرم -أستاذ علوم هندسة الطيران في جامعة كولورادو بولدر، وعضو فريق تغير منسوب سطح البحر التابع لوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"- قام بجمع بيانات تخص الغلاف الجوي للأرض من أقمار صناعية تابعة لوكالة الفضاء الأمريكية ونظيرتها الأوروبية "إيسا"، وعن طريق وضعها في نظام محاكاة توصلوا إلى أن معدل ازدياد منسوب سطح البحر في تسارع مستمر بسبب ارتفاع حرارة المسطحات المائية وذوبان الجليد في القطبين. وهو ما قد يعني أن سواحل العالم كلها مهددة بالغرق!(9)
كذلك قامت الجمعية الجغرافية الأمريكية "National geographic" بوضع تصور لشكل الأرض بعد أن ذاب كل الجليد في القطبين، وتظهر في الصورة منطقة الوطن العربي قبل ذوبان الجليد –الخط الأبيض– وبعدها.
ويمكنك تجربة "استراق النظر على مستقبل البشرية بنفسك" الآن، حيث قام فريق من العلماء ببناء برنامج متاح للعامة يمكنك من خلاله تجربة أنظمة المحاكاة على جهازك الخاص!
سبلاتشي" SPLATCHE "، هو برنامج لمحاكاة الديموغرافيا للسكان والتنوع الجزيئي الناتج عن مجموعة واسعة من السيناريوهات التطورية. في هذا البرنامج أنت المتحكم، حدد المعاملات التي تريدها أن تظهر وشكل الطبيعة التي تريد للسكان العيش فيها وأنظر كيف يتغيرون مع مرور الزمن!(3)
محاكاة داخل محاكاة داخل محاكاة!
في إحدى حلقات المسلسل الكرتوني الساخر "ريك آند مورتي"، يقوم ريك الجد العجوز مجنون العلوم برحلة داخل بطارية سيارته لإصلاحها بعد أن تعطلت، مصطحبًا حفيده المفضل "ريك"، ليفاجئ مورتي بحضارة متطورة تعيش داخل بطارية السيارة، قام جده ريك بصنعها في محاكاة بهدف إمداد سيارته بالطاقة، ولا تنته القصة عند ذلك، بل يدرك "ريك" أن سبب تعطل البطارية هو أن عالمًا ضمن الحضارة الوهمية التي صنعها، ابتكر محاكاته الخاصة لإنتاج الطاقة من حضارة وهمية، وهكذا يسافر الجد والحفيد في محاكاة داخل محاكاة داخل محاكاة.. كلًا ضمن بطارية سيارته!
بقدر ما تبدو تلك الفكرة ساخرة وغير واقعية، إلا أن العلماء منذ أوائل الألفينيات وهم يقومون بصنع عدة محاكيات للكون بهدف دراسته، بعضها فشل فشلًا ذريعًا في تقديم صورة مشابهة لكوننا، إلا أن البعض الأخر كانت نتائجه لا تُصدق.
"كيف لمجموعة من رموز البرمجة أن تصنع ذلك!"
هكذا كان رد عالمة الفيزياء الفلكية "تيزانيا دي ماتيو" عندما شاهدت تكوٌن "المجرات" بشكلها الحلزوني المعتاد، ضمن محاكاة مشروع "بلوتايد" BlueTides للكون.
حقيقةً، هناك جدلاً حادًا بين العلماء والفلاسفة، عمّا إذا كان عالمنا هو محاكاة ضخمة صنعتها حضارة فضائية ما، فقد تكون قوانين الفيزياء وقواعد الكيمياء هي البيانات المكودة التي تتحكم في عالمنا.. أو ربما محاكاتنا!