لم يدرك الأخوان رايت بعد تجرتهم الناجحة في إطلاق أول طائرة تحلق في السماء في عام 1903، أنهما بصدد إنشاء قطاع كامل يسهم في تفاقم أكثر مشكلات العصر إلحاحًا؛ وهي "الاحتباس الحراري".
يعد حرق الوقود أحد الأسباب الرئيسية لتلك الظاهرة بسبب ما ينتج عنه من غازات الاحتباس الحراري أو ما يطلق عليه "الغازات الدفيئة"، والتي يمثل غاز ثاني أكسيد الكربون النسبة الأكبر منها.
يسهم قطاع الطيران وحده في انبعاث أكثر من 900 مليون طن من "ثاني أكسيد الكربون" سنويًا، ما يمثل 2.5% من انبعاثات الكربون العالمية، حيث تنبعث من محركات الطائرات أكثر من ثلاثة كيلوجرامات من "ثاني أكسيد الكربون" لكل كيلوجرام واحد من الكيروسين المحترق خلال الرحلات الجوية.
وفي حين أن قياس انبعاثات "ثاني أكسيد الكربون" هو المؤشر الأساسي لمدى التأثير على المناخ، إلا أن هناك انبعاثات أخرى تسهم أيضًا في التغيرات المناخية. على سبيل المثال، بخار الماء وأكاسيد النيتروجين المنبعثة من الطائرات، والتي على الرغم من بقائها أسابيع قليلة في الغلاف الجوي، إلا أنها تؤثر سلبًا على المناخ وتفاقم مشكلة تآكل طبقة الأوزون.
الطلب على الرحلات الجوية يتزايد، وإذا علمنا أن حركة الطيران التجاري -مابين عامي 2013 و2019- زادت بمعدل أسرع 4 مرات من التحركات نحو تحسين كفاءة الوقود، فمن المتوقع أن تتضاعف نسبة الانبعاثات بحلول عام 2050.
ماذا إن استطعنا تسخير أكثر عناصر الكون وفرة؛ "الهيدروجين"، كمصدر للوقود؟ هل يحد من التأثيرات البيئية البالغة للرحلات الجوية ويصبح بديلًا مستدامًا للوقود الأحفوري؟
في حين أنها تبدو تقنية حديثة للغاية، إلّا أن استخدام "الهيدروجين" كوقود للطائرات ليس مفهومًا جديدًا. ففي سبعينيات القرن الماضي، سلطت بعض الدراسات الضوء على إمكانية استخدام الهيدروجين كوقود للطائرات يمكنه تحقيق صفر انبعاثات، كما ناقشت الاحتياجات التطويرية اللازمة لتطبيق تلك التقنية.
وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، قيمت دراسات أخرى تأثير الرحلات الجوية على المناخ، وتصميم الطائرات، والموارد اللازمة لاستبدال التصميمات الحالية بتصميمات أخرى صديقة للبيئة.
إلا أن تلك الجهود لم يجري متابعتها، حتى توجهت الأنظار مرة أخرى -خلال السنوات الأخيرة- إلى ضرورة إيجاد بدائل أكثر استدامة، للوصول إلى وقود خالٍ من الكربون.
فكان الهيدروجين، أحد ألمع تلك البدائل المتاحة، ويُنظر له بشكل متزايد على أنه أحد أكثر تقنيات الانبعاثات الصفرية الواعدة للطائرات المستقبلية.
تُضخ حاليًا استثمارات على نطاق واسع في هذا المجال، على سبيل المثال، تبنت الشركات الناشئة مثل "زيرو آفيا" مهمة تعديل الطائرات الحالية واستبدالها بطائرات هيدروجينية خالية من الانبعاثات الكربونية الضارة للبيئة.
وها هما شركتي الطيران "ويز إير" و"إيرباص"، أكبر مُصنّع للطائرات في العالم، يوقعان اتفاقية خلال شهر يونيو الماضي، للتعاون في دراسة الفرص التشغيلية والبنية التحتية للطائرات التي تعمل بالهيدروجين، مؤكدين على الالتزام بتطوير طائرات عديمة الانبعاثات وصديقة للبيئة بحلول عام 2035.
وكانت "إيرباص" قد أعلنت في فبراير الماضي عن برنامج تعاون لاختبار محرك احتراق مباشر يعمل بوقود الهيدروجين، استعدادًا لدخول طائرة عديمة الانبعاثات إلى الخدمة بحلول عام 2035.
كذلك وقعت "إيرباص" وشركة "ليندي"، الشركة العالمية الرائدة في مجال الغازات والهندسة الصناعية، خلال شهر يونيو الماضي مذكرة تفاهم للعمل على تطوير البنية التحتية لاستخدام الهيدروجين في المطارات حول العالم، وستقوم الشركتان بتحديد وإطلاق مشاريع تجريبية في العديد من المطارات بداية من أوائل العام المقبل 2023 فصاعدًا.
ورغم كل تلك الجهود الدولية، وفي حين يبدو مستقبل الطائرات الهيدروجينية واعدًا للغاية فإن البعض يرى عقبات تواجه استخدامه كوقود بديل للطائرات.
يرجع ذلك إلى العيوب الفيزيائية والكيميائية لوقود الهيدروجين، حيث يوفر الهيدروجين في صورته الغازية طاقة أقل من التي يوفرها الوقود الحالي، وللتغلب على تلك المشكلة، يجب ضغط الغاز أو تحويله إلى سائل عن طريق تبريده إلى درجات حرارة منخفضة للغاية، ما دون 253- درجة مئوية (423− فهرنهايت).
لذا فإن سعر الهيدروجين السائل أعلى من وقود الطائرات التقليدي بنحو أربعة أضعاف، وهنا تبرز مشكلة إنتاج الهيدروجين على نطاق واسع وبسعر تنافسي دون أن يكون له بصمة كربونية كبيرة، فالغالبية العظمى من الهيدروجين المستخدم في الصناعة في الوقت الحالي، من نوع "الهيدروجين الرمادي" الذي ينتج عن الوقود الأحفوري، ما يؤدي إلى إطلاق ثاني أكسيد الكربون كمنتج ثانوي.
تحدٍ آخر يواجه الهيدروجين، حيث يحتوي على كثافة طاقة لكل وحدة كتلة أعلى بثلاث مرات من وقود الطائرات التقليدي؛ ما يعني أن تخزين الهيدروجين يحتاج إلى خزانات كبيرة يصل حجمها إلى ثلاث أضعاف الخزانات المستخدمة حاليًا.
ونتيجة لذلك، قد تضطر الطائرات إما إلى تقليص أعداد الركاب لإفساح المجال لخزانات وقود الهيدروجين، أو تصميم طائرات بحجم أكبر بكثير مما هي عليه حاليًا، ما يعرض الطائرة لخطر أكبر لخضوعها لمزيد من السحب.
إن تطبيق استخدام وقود "الهيدروجين" كبديل مستدام للوقود الأحفوري المستخدم حاليًا في قطاع الطيران يبدو واعدًا إلى حد كبير، لكنه كما الحال في أي من التقنيات الحديثة، يحتاج إلى المزيد من الدراسات التجريبية التي تضمن سلامة استخدامه وتوفر سبل آمنة ومجدية اقتصاديا لإنتاجه على نطاق واسع.
تُرى، أتُذلل العقبة الرئيسية وتنخفض أسعار الهيدروجين السائل في العقود المقبلة في ظل انتشار البنى التحتية لتصنيعه وتحسين كفاءته، أم هل تتغير المعادلة وتتحول الدفة إلى الوقود الحيوي، الذي لا يتطلب تغييرات جذرية في البنية التحتية للطائرات، كونه يتشابه في التركيب الكيميائي مع الوقود المستخدم حاليا في الطائرات؟