لا يخفى على أحد منا ما شهده العالم في العقود الأخيرة من تغيرات مناخية تهدد البيئة. لكن لحسن الحظ، بالتزامن مع هذه التغيرات الحادة، ازداد الوعي بأهمية السيطرة على انبعاثات غازات الدفيئة -المسبب الرئيسي لتلك الظاهرة- والحد منها، خاصةً بعد إعلان الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة في عام 2015، ما وجه المبادرات العالمية والمحلية إلى تقليل هذه الانبعاثات في معظم المجالات خاصةً الصناعية.
ولكن هل ننتظر إستراتيجيات خفض الانبعاثات العالمية والتي قد تعالج الأمر على المدى البعيد، أم يكون قد فات الأوان؟
يظل أملنا الوحيد هو إستراتيجيات التنمية المستدامة التي تهدف إلى خفض انبعاثات غازات الدفيئة من الأساس، جنبًا إلى جنب مع جهود حبس والتقاط هذه الانبعاثات الموجودة بالفعل في غلافنا الجوي.
ثاني أكسيد الكربون مورد اقتصادي هام
منذ بداية العصر الصناعي في القرن الثامن عشر، رفعت الأنشطة البشرية غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بمعدل 50%، ليزيد إجمالي انبعاثات الغاز في العالم بنسبة 150% مما كانت عليه في أوائل القرن الثامن عشر.
وينتج ثاني أكسيد الكربون من عمليات لا حصر لها أغلبها تتعلق بالصناعة، لكن يظل حرق الوقود الأحفوري؛ مثل الفحم والغاز الطبيعي والنفط هو المصدر الأكثر إسهامًا في الانبعاثات.
ومن هذا المنطلق، توجه الباحثون إلى إيجاد طرق عملية وفعّالة للتخلص من ثاني أكسيد الكربون للحد من هذه التأثيرات، وتوجهت الأنظار إلى إعادة تدوير هذا الغاز إلى وقود للسيارات والطائرات، وحتى للآلات في المصانع.
تمكن الباحثون من تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى هيدروكربونات باستخدام التحفيز الكهربائي والكيميائي، لتمهيد الطريق لتحويله إلى وقود، مثل الكيروسين والإيثانول.
لكن تظل النقطة الأهم هي كيفية توليد هذه الكهرباء؛ فاستخدام الطاقة المستمدة من الوقود الأحفوري من خلال الفحم أو الغاز أو النفط يضيف المزيد على عاتق البيئة، ولا يحقق الهدف الأساسي وهو خفض نسب هذه الانبعاثات في الغلاف الجوي. لذلك فإن مصادر الطاقة المتجددة المنخفضة الكربون؛ مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أو طاقة الأمواج هي السر وراء نجاح هذه التقنية.
ليست هذه التوجهات مجرد كلامًا نظريًا، فقد شهدنا "إيلون ماسك" مؤسس شركة "سبيس إكس"، المعنية بتقنيات استكشاف الفضاء، يعلن في ديسمبر الماضي، تخطيطه لتطبيق هذه التقنية وتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى وقود صاروخي. كما وعد بجعل الوقود القائم على الكربون أساس برنامجه الفضائي. فهو بذلك -على حد قوله- يستغل ثاني أكسيد الكربون في استكشاف الفضاء وتبريد مناخ الأرض في الوقت نفسه.
أضف إلى ذلك المشروع القائم في جامعة ستانفورد بأمريكا، والذي يعتمد على استخدام محفز من معدن النيكل يعمل إما بالحرارة أو الكهرباء لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مواد كيميائية ووقود ومنتجات أخرى.
مشروع آخر بجامعة إلينوي في أمريكا، يحول ثاني أكسيد الكربون المنبعث من المصانع إلى إيثانول باستخدام الكهرباء ومحفز من معدن النحاس.
والجدير بالذكر أن لمنطقتنا العربية مساهمات ملحوظة بشأن تطبيق هذه التقنيات، فقد شهدنا في مصر، وتحديدًا في مدينة الإسكندرية مشروعًا ضخمًا قارب على الانتهاء، يقوم على تحويل غاز ثاني أكسيد الكربون إلى طاقة نظيفة.
كما توجهت الإمارات العربية المتحدة إلى تطبيق هذه التقنيات في مشروعات ضخمة لتوليد الطاقة والاستفادة بها خاصةً في قطاع الطيران.
لقد أصبحت المشاريع الجديدة التي تعد بإنتاج وقود سائل قائم على ثاني أكسيد الكربون من المياه ومصادر الطاقة المتجددة موضوعًا شائعًا، لكنها ليست الوحيدة التي تهتم بهذا الشأن، فهناك أيضًا العديد من التقنيات المعنية بإعادة تدوير أنواع أخرى من غازات الدفيئة؛ أبرزها غاز الميثان.
تقنيات واعدة للميثان أيضًا
على الرغم من عدم كونه الأشهر، إلّا أنه مساهم قوي في الانبعاثات العالمية، فتأثيره يفوق تأثير غاز ثاني أكسيد الكربون بأكثر من 25 مرة.
وفقًا للأمم المتحدة، يمثل الميثان ما يقرب من 30٪ من إجمالي الغازات المسببة للاحتباس الحراري، منذ عصور ما قبل الصناعة ، ويتكاثر على نحو سريع. ولكن لحسن الحظ، يمكن خفض انبعاثات الميثان الناتجة عن النشاط البشري بنسبة تصل إلى 45٪ خلال هذا العقد.
تنتج انبعاثات الميثان أثناء إنتاج ونقل الفحم والغاز الطبيعي والنفط. كما أنها تنتج عن بعض الممارسات الزراعية وتربية المواشي. ويمثل أيضًا تحلل النفايات العضوية الموجودة في مدافن النفايات الصلبة مصدرًا كبيرًا لهذه الانبعاثات.
وفقًا لدراسة نشرتها مجلة "الاتصالات الكيميائية"، نجح فريق من الباحثين في إيجاد طريقة جديدة لتحويل غاز الميثان إلى أحد صور الوقود وهي الميثانول السائل، وذلك من خلال استغلال خصائص بعض المعادن مثل النحاس في عملية تعرف باسم "الأكسدة الضوئية".
في حين يعد الميثانول أحد الملوثات البيئية، إلّا أن تأثيره أخف حدة مقارنةً بالأنواع الأخرى من الوقود السائل. فهو مادة حيوية لإنتاج الديزل وبعض الصناعات الكيميائية.
لا زالت تقنية تحويل الميثان إلى وقود سائل باستخدام محفز ضوئي جديدة وغير متوفرة تجاريًا، إلّا أنها واعدة إلى حد كبير.
وبالتأكيد لا يمكننا اعتبار هذه التقنيات أكثر الوسائل حفاظًا على البيئة لما لها من بصمة كربونية لا يمكن غض الطرف عنها، لكنها بالطبع تمنحنا فرصة للسيطرة على الوضع الحالي بالتماشي مع الإستراتيجيات الأخرى لخفض انبعاثات غازات الدفيئة من الأساس.