"ما زاد عن حده، انقلب ضده" هكذا هو حال الإفراط في أي شيء، لكن حتى في شرب الماء؟!
يومًا بعد يوم تخبرنا يطل علينا أحد الخبراء على شاشات التلفاز أو الهواتف قائلًا: "أكثر من شرب الماء، لصحتك العقلية والجسدية، أو حتى لصحة شعرك وبشرتك وكليتيك" ، لكن يبدو أن هذه النصيحة بحاجة لأن يتم تكملتها بـ "واحذر التسمم المائي".
الماء هو المكون الرئيسي لجسم الإنسان (يشغل حوالي 60% من إجمالي وزن الجسم)، بل أن كل خلية من خلايا أجسامنا تحتاج إلى كمية مناسبة من المياه لتأدية وظيفتها على أكمل وجه. فكيف لسر الحياة الذي لا يمكن الاستغناء عنه أن يصبح مصدرًا للخطر يهدد الحياة؟
تسمم الماء هو حالة نادرة قد تؤدي للوفاة إن لم تُعالج على الفور، وهي تحدث نتيجة شرب كميات كبيرة من الماء، بحيث تفوق قدرة الكلى على التخلص منه بالسرعة الكافية.
كيف يحدث التسمم المائي؟
تحاط خلايا الجسم المختلفة بهيكل داعم يتكون من شبكة ثلاثية الأبعاد، يُطلق عليه اسم "النسيج البيني". يختلف تركيز المعادن والأملاح اختلافًا جوهريًا بين الخلايا وبين النسيج البيني، ما يضمن التوازن اللازم لتأدية الخلايا لوظائفها.
لاحظ توازن الأملاح في الخلايا والنسيج البيني:
أما في حالة التسمم المائي، فإن الزيادة المفرطة للماء في النسيج البيني الذي يحيط بالخلايا يخل بذلك التوازن، حيث ينتقل الماء من المناطق الأقل تركيزًا إلى المناطق الأكثر تركيزًا، وفي هذه الحالة، ينتقل الماء بسرعة بالغة من النسيج البيني إلى داخل خلايا الجسم، ما يتسبب في تضخم تلك الخلايا وتأثر وظيفتها إلى حد بعيد.
تختلف استجابة الخلايا لذلك التضخم باختلاف وظائفها وأماكنها، فعلى سبيل المثال، تمتلك خلايا العضلات والخلايا الدهنية قدرة كبيرة على التمدد واستيعاب كميات كبيرة من الماء دون أن تتأثر وظائفها بصورة كبيرة، في حين لا تمتلك الخلايا الدماغية تلك القدرة، بل إن وجود بعض الزيادات الطفيفة في أي من مكونات النسيج البيني، وخاصةً الماء، يمكن أن يتسبب في اختلال بالغ في وظائف الخلايا الدماغية، كما يزداد الضغط داخل الجمجمة نتيجة للخلايا العصبية المتورمة بفعل الماء، ما يؤدي إلى ظهور أعراض تنبئ بالإصابة باضطرابات بالغة في وظائف الجهاز العصبي المركزي.
أعراض التسمم المائي
تظهر معظم أعراض التسمم المائي نتيجة الضغط الزائد داخل الجمجمة، كنتيجة لاختلال توازن الأملاح والمعادن، وانتقال الماء الزائد إلى داخل الخلايا الدماغية. في حين أن معظم هذه الأعراض ليست مميِزة للتسمم المائي، إلّا أنها تدل على تأثر الجهاز العصبي المركزي، وتشير إلى ضرورة البحث عن السبب وراء ظهور تلك الأعراض.
لماذا يفرط البعض في شرب الماء إلى حد التسمم؟
التمارين الرياضية الشاقة
مع ممارسة التمارين الرياضية الشاقة، يختل توازن الأملاح بالجسم، ويتفاقم ذلك الاختلال عند الإفراط في شرب الماء الذي يخفف تركيز ما تبقى من الأملاح والمعادن بالجسم، ويزيد من حدة الأعراض.
وفي هذا السياق، نشرت مجلة "نيو إنجلاند" الطبية تقريرًا يربط بين الإفراط في شرب الماء واختلال نسبة الصوديوم في الدم. فعن طريق تحليل عينات الدم من المشاركين بعد الانتهاء من ماراثون مباشرةً، بالإضافة إلى إكمال استبيانات مفصلة عن استهلاك السوائل في أثناء الماراثون.
أشار الباحثون إلى أن أكثر من 13% من المشاركين تعرضوا لاختلال نسبة الصوديوم في الدم نتيجة فقده بكميات كبيرة في أثناء الجري وتأدية المهام الشاقة خلال الماراثون، وعدم تعويض ذلك بالسوائل التي تحتوي على نسب كافية من الصوديوم، بل وأزداد الأمر سوءًا بتناول الماء فقط، ما فاقم مشكلة نقص الصوديوم، عن طريق تخفيف تركيزه بالدم إلى نسب منخفضة للغاية.
لا يقتصر الأمر على ظهور أعراض اختلال توازن الأملاح والمعادن بالجسم فحسب، بل إن الأمر قد يصل إلى الوفاة، كما حدث في عام 2007، حيث نشرت "مجلة تقارير الحالات الطبية" دراسة تستقصي وفاة عداء في الثلاثينيات من عمره، مباشرة بعد إكمال أحد الماراثونات. وبعد التحقق من الأمر، توصل الباحثون إلى أن النقص الحاد في نسبة الصوديوم في الدم -الذي تفاقم بالإفراط في شرب المياه- أدى إلى تورم الخلايا الدماغية وارتفاع الضغط داخل الجمجمة بصورة بالغة، ما تسبب في فشل المراكز الحيوية في الدماغ وأدى إلى وفاته.
اضطرابات عقلية
قد يكون الإفراط في شرب الماء ناجمًا عن بعض الاضطرابات العقلية التي تُحدث خللًا في مراكز الشعور بالعطش، ما يترك المُصاب في حلقة مفرغة من الإفراط في شرب الماء مع استمرار الشعور بالعطش، فيتخطى الأمر قدرة الكليتين على إخراج تلك الكميات البالغة من السوائل. يؤدي احتباس السوائل بالجسم إلى اختلال توازن الأملاح، وخاصةً الصوديوم، ما يتسبب في ظهور أعراض التسمم المائي التي تصل إلى حد الوفاة إذا لم يُعوَض تركيز الأملاح والمعادن في وقت مناسب.
ولعل أبرز مثال على ذلك، هو وفاة امرأة ستينية في ظروف غامضة، لتكشف الدراسات فيما بعد من نتائج الأشعة والتحقيقات التشريحية، أن سبب الوفاة هو حدوث نقص حاد في مستوى الصوديوم في الدم، نتيجة شرب 30-40 كوبًا من الماء في نوبات هيستيرية، ما أدى إلى تورم الخلايا الدماغية وحدوث ما يُعرف بفتق الدماغ (Brain Herniation).
تناول الماء بكثرة: عقاب وصل إلى حد الموت!
في أواخر القرن الماضي، نشرت "الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال" دراسة تكشف سلوكًا غريبًا يصعب تصديقه إلى حد بعيد، حيث عني الباحثون في تلك الدراسة بالبحث عن السبب الرئيس وراء وفاة ثلاثة أطفال في أقسام الطوارئ بالمستشفيات، حيث كانوا يعانون نقصًا حادًا في مستوى الأكسجين بالدم، ظهر في صورة قيء مفرط، أو تشنجات، وغيبوبة أدت إلى الوفاة.
وبعد التحقيق في الأمر وتشريح جثث الأطفال الثلاثة، اكتشف الباحثون أن الأمر برمته ناتج عن الإفراط في شرب الماء، نتيجة إجبار الأطفال على شرب ما يزيد عن ستة لترات من المياه كعقاب، لينقلب الأمر إلى مأساة وتعدي صريح على هؤلاء الأطفال، ما أدى إلى وفاتهم.
الاحتياج اليومي للجسم من الماء
وفقًا لمركز مكافحة الأمراض (CDC)، فإنه لا يمكن تحديد معايير ثابتة للكميات اللازمة من المياه التي تناسب جميع الأشخاص، بل إن الأمر يعتمد على عوامل عدة، مثل وزن الشخص ومعدل نشاطه اليومي، والمناخ الذي يعيش فيه.
في حين تنصح "الأكاديمية الوطنية للطب" بشرب حوالي 2.7 لترًا من المياه للسيدات التي تتراوح أعمارهن بين 19-30 عام، وتزداد هذه الكمية للرجال في الفئة العمرية نفسها لتصل إلى 3.7 لترًا.
على كل حال، فإن الأمر برمته يعتمد على قدرة الكلية البشرية على التخلص من كميات الماء الزائدة، حيث تستطيع الكلية البشرية التخلص مما يقرب من لتر بأكمله من المياه في الساعة الواحدة، لذا، يُنصح بعدم الإفراط في شرب السوائل فيما يزيد عن لتر في الساعة الواحدة.
أخيرًا، لا شك أن الماء هو سر الحياة، وأن خلايا الجسم لا تستطيع بأي شكل من الأشكال تأدية وظائفها دون توافر الكميات اللازمة من المياه، إلّا أنه على ندرة حالات التسمم المائي نسبيًا، إلّا أن الإفراط في شرب الماء له عواقبه التي قد تهدد الحياة.