في إحدى المرات، كُنت في طريقي إلى الجامعة، وبينما أتلفت حولي، وقعت عيناي على فتاة ذات وجه مألوف للغاية جالسةً بجواري. هي أيضًا كانت تدقق النظر نحوي. ابتسمت لها وقُلت: "أشعر أنني أعرفكِ"، فضحكت وقالت: "نعم، أنا أيضًا أعرفكِ، فقد درسنا سويًا بدورة الرياضيات العام الماضي". بعد ذلك عرّفنا أنفسنا، واكتشفنا أننا كنا على علم بأسماء بعضنا، لكنها فقط تاهت من ذاكرتنا لبعض الوقت.
كم مرة أضطررت لمجاراه الحديث مع شخص تدرك جيدًا أنك تعرفه لكن لا تستطيع تذكر أسمه؟ يا للحرج!
ربما حدث هذا الموقف معك أنت أيضًا، وقد تنعت نفسك بصاحب ذاكرة السمكة، لكن هذا أمر يحدث لنا جميعًا، فلا بأس يا صديق. مع ذلك، ستَطرح على نفسك سؤالًا، وهو لماذا نتذكر الوجوه ولا نتذكر الأسماء؟ حسنًا، تحتاج إجابة هذا السؤال شرحًا طويلًا، وهذا محور موضوعنا الآن. قبل الإجابة عن هذا السؤال، لنتطرق إلى سؤال مهم، إجابته في دراسة.
هل حقًا نتعرف على الأسماء أولًا؟
في نوفمبر 2018، نُشر بحث في مجلة "Quarterly Journal of Experimental Psychology"، أجراه باحثون في جامعة يورك، يفيد بأنّ الأشخاص أفضل في تذكر الأسماء عن الوجوه. بعكس الفكرة الشائعة عن أننا نتذكر الوجوه أسرع من الأسماء. وفي الدراسة، أجرى الباحثون تجربة، حيث وُضعت مجموعة من الصور لأشخاص غرباء مع أسمائهم أمام المشاركين. في المرة الثانية، طُلب منهم التعرف على الصور. وكانت المفاجأة أنّ المشاركين تذكروا الأسماء بنسبة 83%، بينما تذكروا الوجوه بنسبة 64%.
بعد ذلك، كرر الباحثون نفس التجربة، لكن ليكونوا أكثر واقعية، أحضروا صورًا لنفس الأشخاص الغرباء، لكنها صور مختلفة، وكانت النتيجة أنهم تذكروا الأسماء بنسبة 73%، بينما تذكروا الوجوه بنسبة 64%. وفي النهاية أفضت الدراسة إلى أننا جيدون في تذكر الأسماء عن الوجوه، وسيئون في التعرف على الوجوه الغريبة خاصة. لكن ما حدث أنني تذكرت وجه صديقتي أولًا، وليس اسمها. حسنًا، لنعود لسؤالنا الأول..
لماذا تذكرت وجه زميلتي قبل اسمها إذن!
ببساطة، لأن أدمغتنا تهوى البيانات المرئية، يتميز الدماغ البشري بقدرته على معالجة البيانات البصرية مثل الصور والرسومات. تمامًا كما يحدث في الحملات التسويقية، أغلب ما يبقى في ذاكرتنا هي صور العلامات التجارية المميزة. نفس الأمر يحدث في حالة الوجوه، فنحن نميل لمعالجة البيانات البصرية بسرعة أكبر وأفضل من المعلومات الأخرى كالأسماء التي تُذكر لفترة قصيرة.
لأُبسط الأمر أكثر، عندما تقابل شخصًا ما، أول ما تقع عينيك عليه هو الوجه. بعد ذلك قد يحدث تعارف، فيذكر لك اسمه، وينشأ حديث. أثناء هذا الحديث، أي المعلومات سيستقبلها دماغك أكثر: شكل وجهه بتفاصيله أم الاسم؟ من غير المنطقي أن يذكر لك اسمه كل ثانية. من ذلك نخلص إلى أنّ البيانات البصرية سيكون لها الأولوية عن المعلومات العادية.
بالإضافة إلى ذلك، تختلف المناطق التي تخزن الأسماء عن تلك التي تحفظ الوجوه، ما يجعل ربطهما ببعضهما يحتاج بعض الوقت، وذلك لأن - كما ذكرت - الدماغ مُهيأ لمعالجة البيانات المرئية (المتمثلة في الوجه) أسرع من الأخرى (كالأسماء). بعبارة أخرى، إن أدمغتنا مبرمجة على ترميز واستعادة البصريات أكثر من المعلومات التي قد نتلقاها عن طريق السمع مثلًا.
عمى تعرف الوجوه
هناك في الدماغ منطقة تسمى "الوجه المغزلي" أو "التلفيف المغزلي"، وهي توجد في الوجه البطني للفص الصدغي للدماغ، عندما يحدث تلف في هذه المنطقة، يُصاب المرء بـ "عمى تعرف الوجوه"، وهي حالة لا يستطيع فيها الشخص التعرف على الوجوه، حتى قد لا يتعرف على وجهه هو نفسه. لكنه يتعرف على الأدوات مثل فنجان القهوة أو الطبق الخاص به وما إلى ذلك. هذا يدفعنا للتعمق أكثر داخل علوم الأعصاب لمعرفة خبايا الدماغ البشري بشأن ذاكرة الوجوه.
السر في الفص الصدغي..لكن أين تحديدًا؟
أشارت العديد من الأبحاث السابقة عن وجود خلايا محددة، تساعد في تذكر الأشخاص الذين نحبهم. على سبيل المثال، انتشر مفهوم منذ ستينات القرن الماضي، تييد بأنّ هناك خلية عصبية تحفظ وجه الجدة، وتسمى عصبون الجدة. على نفس المقياس، هناك خلية في الدماغ تحفظ وجه الأم، وهكذا.
بعبارة أخرى، خلية عصبية لكل شخص نعرفه تُخصص لحفظ الوجه، وترتبط هذه الخلية بالذكريات، لكنها في النهاية خلية واحدة فقط، نحن نحتاج إلى نطاق أوسع، حيث لا نرى وجه الجدة فقط في حياتنا! وتذهب دراسة أخرى إلى أنّ هناك خلايا عصبية أخرى أُطلق عليها "بقع الوجه" تنشط عندما يرى شخص وجهًا يعرفه من قبل، ما فتح المجال للبحث أكثر.
نقلًا عن موقع "Neuroscience News"، نُشر بحث جديد في مجلة "Science" العالمية، كشف الباحثون فيه عن وجود مجموعة جديدة من الخلايا العصبية المحددة في الفص الصدغي، مسؤولة عن ربط الوجه بالذاكرة طويلة المدى. تتميز هذه الخلايا بأنها عبارة عن مجموعة من الخلايا التي تتعرف على الوجوه بشكل جماعي، وليست كمثال عصبون الجدة، والذي يمثل خلية عصبية واحدة مخصصة للتعرف على وجه الجدة، بل إنها مجموعة من الخلايا التي تعمل معًا.
لكن أين يقع عصبون الجدة؟
أُجريت العديد من الدراسات لحل اللغز الذي يربط بين الذاكرة طويلة المدى والوجوه، وخلالها اكتشف العلماء الكثير من خبايا الذاكرة والخلايا العصبية الحسية المتعلقة بتخزين البيانات والمعلومات من خلال اللقاءات، لكن لم يظهر أي أثر لعصبون الجدة الذي آمن بوجوده عدد كبير من علماء الأعصاب! مع ذلك، الأمر لم ينته بعد!
عن الوجوه المألوفة
اكتشف الباحثون وجود منطقة في الفص الصدغي تنشط بشكل ملحوظ عند مشاهدة وجه مألوف. وقرروا إجراء تجربة باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي فقط للكشف عن هذه الأماكن، واستخدموا قرودًا، وجعلوهم يشاهدوا وجوهًا مألوفة بالنسبة إليهم، ومرة أخرى يشاهدون وجوهًا غير مألوفة. وسجلوا الإشارات الكهربائية للخلايا العصبية في الفص الصدغي.
عندما شاهدوا الوجوه المألوفة على الشاشة، ازداد نشاط بعض الأماكن في الفص الصدغي، وبينما شاهدوا الوجوه غير المألوفة مرة أخرى، لم ينشط الفص الصدغي مثل الحالة الأولى. ما يعني أننا حقًا نتذكر الوجوه المألوفة أكثر من غيرها.
إحياء أسطورة عصبون الجدة
ساعدت التجربة السابقة التي أجرها الباحثون في ربط الخلايا العصبية بالذاكرة، واتضح ذلك جليًا عندما أحدثت بعض المناطق نشاطًا أكبر عندما شاهدت القردة وجهوهًا مألوفة، ما يدعم فكرة عصبون الجدة، فهذا يعني أنّ هناك ارتباطًا بين الذاكرة والخلايا الحسية الأخرى، وقد يفتح ذلك المجال أمام البحث فيما يحدث عندما يرى الإنسان وجًا جديدًا وكيف تتشكل ذاكرة لوجه هذا الشخص، وآلية عمل أجزاء الدماغ المختلفة في هذه الحالة. بالإضافة إلى أنّ هذا قد يفيد في التجارب السريرية التي تُجرى لعلاج حالات عمى تعرف الوجوه.
من ذلك كله، نخلص إلى أنّ تذكري لزميلتي كان أمرًا طبيعيًا، فذاكرة الوجه أنشط وأقوى من الذاكرة السمعية، بالرغم من عدم تأكيد الأبحاث لما يحدث معنا بصورة كاملة حتى الآن، لكنه علم الأعصاب الذي يمدنا بشذرات ممتعة بين الحين والآخر، ونتمكن من معرفة المزيد حول أسرار الدماغ البشري الغامض.