كان أحد الأخبار التي تجولت حول العالم مؤخرًا، متعلقة بعالم حاصل على جائزة نوبل وهو جريج سمينزا، حيث سُحبت أربعة أوراق بحثية كان هو مؤلفها الرئيس، بسب شبهة تزوير في النتائج، الأمر الذي أثار انتباه البعض للتعليق على العملية البحثية ككل، بالقول: "العلم في كثير من الأحيان يتحرك باتجاه ما، فقط لأن العلماء يريدون ذلك، وليس بحثًا عن الحقيقة".
في الواقع، فإن سمينزا ليس عالم نوبل الوحيد الذي سحبت ورقة بحثية له، ففي عام 2020 تراجعت العالمة الأمريكية فرانسيس أرنولد، الحاصلة على جائزة نوبل في الكيمياء، عن ورقة بحثية حديثة لها، لأن النتائج المعروضة في الورقة لم تكن قابلة للتكرار.
أنا فيزيائي وأقول لك
لو قررت أن تبحث قليلا لوجدت أن الأمر يتخطى أخطاء بحثية تعد مقبولة في بعض الأحيان بالوسط العلمي، هناك من العلماء من روج لخرافات ظلت إلى الآن متجذرة في وصفاتنا الطبية، مثل لينوس باولنج الحاصل على نوبل في الطب عام 1954، والذي روّج -بلا دليل مناسب- للدور الهام الذي يلعبه فيتامين سي في علاج نزلات البرد، بل وإطالة العمر، والواقع أن ادعاءات باولنج لم تكن صحيحة، بل لو قررت أن تبحث بشكل أعمق لوجدت من كبار العلماء والحاصلين على نوبل من آمن بالأبراج وروج لها، هذا ولم نتحدث بعد عن آلاف الأطباء ممن روجوا لخرافات نظريات المؤامرة في أثناء أوج انتشار جائحة كورونا العالمية، وأساتذة الجامعات الذين شاركوا في نفس الموجة.
الأمر إذن محيّر، فمن أحد الجوانب يثق الكثير من الناس في العلماء، حينما يتصدر "ترند" ما وسائل الإعلام، ويكون متعلقًا بشأن علمي، فحضور أحد العلماء وحديثه عن الأمر يمثل للناس مرجعية أساسية، ما سيقوله هذا الرجل هو لا شك "الحقيقة" في هذا الشأن، غالبًا ما سيقول الرجل الحقيقة العلمية، لكنه في بعض الأحيان سيصدر رأيه في سياق تلك الحقيقة، وهنا نقع جميعًا في أزمة "التوسل بالمرجعية"، وهي أحد صور الحجج المنطقية التي يُستخدم فيها دعم مرجعية ما كدليل على استنتاج الحجة.
تجري الحجة كالتالي: شخص ما يقول أن الادعاء X صحيح، هذا الشخص يعد خبيرًا في النطاق الذي يتخصص في دراسة X، وبالتالي فإن الادعاء X صحيح لا شك! لوهلة، تظن أن هذا الكلام خالي من الخطأ، إلا أن "التوسل بالمرجعية" في الحقيقة يعد مغالطة منطقية شهيرة، بل هي شهيرة لدرجة أن الفلكي الأمريكي واسع الشهرة كارل ساجان قال عنها ذات مرة: "واحدة من الوصايا العظيمة للعلم هي ألا تثق في "التوسل بالمرجعية"، لقد ثبت أن الكثير من الحجج القائمة على هذه الطريقة خاطئة بشكل مؤلم".
تنتشر هذه المغالطة على التواصل الاجتماعي بشكل هائل، عادة ما ستلتقي بتعليق أو منشور يحمل جمل مثل "أنا طبيب، وأقول لك إن.."، أو "أنا متخصص كيمياء، وأقول لك إن.." أو "أنا فيزيائي، وأقول لك أن .. "، أو قد يستحضر البعض مصدرًا خارجيًا، وهذا عادة ما يحدث في العلوم التي تتسبب في حالة من الجدل لدى الجمهور، مثل نظرية التطور، كأن يقول منشور على موقع "الفيسبوك" أن هذا العالم من جامعة كذا والحاصل على الدكتوراة في كذا وكذا يقول بخطأ نظرية التطور، هنا سيصدق البعض هذا العالم لسبب واحد، وهو اعتبار أن مجرد السلطة أو المرجعية تعد بديلًا عن الدليل العلمي.
بل ويمتد الأمر إلى آراء العلماء في شؤون غير علمية. على سبيل المثال، يقول بول نيرس الحاصل على نوبل في الطب لعام 2001، أن الحاصل على نوبل يصاب في بعض الأحيان بما يسمى "مرض نوبل"، حيث يعتقد هذا العالم أو تلك العالِمة أنه خبير في كل شيء تقريبًا، وبالتالي يمكن له أن يقول آراء صحيحة في علوم المناخ والطاقة والسياسة ومشكلات الحرب في أوكرانيا، على الجانب الآخر فإن الجمهور يعتبر أن العالِم هو شخص صادق في أي رأي، وبالتالي يصدقه بدون تساؤل.
ورقات بحثية غير بريئة
المشكلة إذن في هذا السياق هي أن الناس عادة ما يُساوون بين "العالِم" و"العِلم"، لكن العالِم هو إنسان مثلك، يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يتحيز لعشرات الأسباب التي قد تكون سياسية أو دينية أو حتى شخصية بحثًا عن الشهرة الإعلامية، ابحث على "يوتيوب" الآن ولن تجد أكثر من أساتذة الطب الذين يقولون لك أن خل التفاح هو العلاج السحري لكل الأمراض من التهاب المفاصل وحتى العجز الجنسي، ومرورًا بالسرطان.
في تلك النقطة دعني أعرفك إلى أندرو جيريمي ويكفيلد، وهو طبيب بريطاني مناهض للقاحات وأكاديمي سابق تورط في الترويج لواحدة من أكبر الخدع الطبية في القرن الفائت ولن نبالغ لو أضفنا القرن الحالي كذلك.
في فبراير من عام 1998 نشر ويكفيلد في المجلة الطبية المرموقة "ذا لانسيت"، ورقة بحثية تقول أن هناك ارتباط بين مرض التوحد وكذلك نوع محدد من التهابات الأمعاء والقولون، وبين حصول الأطفال على لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية، لم يمر الكثير من الوقت قبل أن تنتشر الأخبار عن الدراسة، ما تسبب في حالة من الهلع العام في أوروبا وأمريكا ثم تبعتهما بقية الدول.
ويوصى بتلقي الجرعة الأولى من هذا اللقاح للأطفال من عمر 12 شهرًا حتى 15 شهرًا.
بعد ذلك تبين أن نتائج ويكفيلد لم يمكن تكرارها، أي أن الدراسات التالية التي حاولت فحص هذه العلاقة للتأكيد عليها أو تفنيدها، لم تجد رابطًا بين لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية أو أية لقاحات أخرى ومرض التوحد، أضف إلى ذلك أن تحقيقات تالية أشارت إلى أن ويكفيلد ورفاقه تلاعبوا بالنتائج، وأن عددًا من الأطفال الخاضعين للدراسة عانوا قبل تلقي اللقاح أصلا من بعض اضطرابات النمو، وبالتالي كان من المتوقع أن يصابوا بالمرض. وعليه، شُطب ويكفيلد من السجل الطبي في المملكة المتحدة بسبب تزويره المتعمد للأبحاث، وسحبت المجلة الورقة.
لكن ويكفيلد للأسف لم يتوقف، واستمر في الدفاع عن فرضية العلاقة بين اللقاحات والتوحد، الأمر الذي تطور إلى نظريات مؤامرة متنوعة تقول أن هناك جهات سرية تتربح من بيع اللقاحات وفي نفس الوقت تريد المزيد من الأطفال المصابون بالتوحد لكي تبيع لهم علاجات التوحد، إنها نفس مجموعات المؤامرة التي نشطت في أثناء حملة التطعيم الأولى ضد كوفيد-19، وإلى الآن لا يتمكن أحد من إيقاف انتشار نظريات المؤامرة تلك، لأن زعيمها هو أحد العلماء.
ورقة واحدة لا تكفي
في حالة ويكفيلد فإن الأمر أكثر تعقيدًا، لأننا لا نتحدث فقط عن رأي عالِم بل ورقة بحثية، الآن دعنا نفترض أن ورقة ويكفيلد المفبركة كانت صحيحة، هل يمكن أن تكون ورقة بحثية واحدة هي إشارة إلى حقيقة علمية؟
في الواقع، لا. هذا هو خطأ آخر في الفهم يقع فيه الكثيرون، حيث تصدر آلاف الأوراق البحثية بشكل شهري، بعضها مهم ويمثل نقلة في نطاقه، لكن البعض الآخر ليس كذلك، ويتضح ذلك في النطاقات التي عادة ما تنتشر أخبارها على وسائل التواصل الاجتماعي. على مدى خمس سنوات مثلا يمكن أن تقرأ مجموعة من الأخبار المتنوعة والتي قد تكون متضاربة عن فوائد الشاي أو القهوة أو الشُوكُولاَتَةُ، بل قد تجد خبرًا يقول أن هناك ورقة بحثية تقول أن الشاي يضر بالقلب وأخرى تقول أنه يحمي القلب.
لكن ما سبق ليس "عُطلا" في العملية العلمية بقدر ما هو في الحقيقة سر قوتها. في مقالة نشرت عام 1942 بعنوان "الهيكل المعياري للعلم" يوضح عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون، أن أحد أعمدة العلم هو ما يسمى "التشكك المنظم"، حينما يقول عالِم ما أنه تمكن من مشكلة ما في الجاذبية الكمومية فإن بقية العلماء لن يصدقوه فورًا، بل يجب أن يكون هناك براهين ودلائل علمية ومراجعات متتالية لنفس الأفكار، يحتاج العلماء دائما للتحقق من كل الحقائق، والاحتمالات المطروحة، والآليات المستخدمة، والأدوات التجريبية .. الخ.
لهذا السبب يوجد في نطاق البحث العلمي ما يعرف باسم "التحليل التلوي"، وهو تحليل يتضمن تطبيق الطرق الإحصائية على نتائج عدد من الدراسات التي تستهدف الإجابة على نفس السؤال البحثي لكنها قد تكون متوافقة أو متضادة، ويهدف التحليل هنا إلى تحديد توجه واحد لتلك النتائج، أو لإيجاد علاقة مشتركة فيما بينها.
إجماع العلماء
وبصورة أكثر عمومية، فإن المجتمع العلمي هو حالة نشطة من التشكك المنظم، الأمر الذي يُغربل النتائج البحثية بشكل مستمر وبلا توقف، ولذلك يمكن أن تكون هناك ورقة بحثية مقبولة في نطاق ما لكنها ليست قوية كفاية لتأكيد حدوث شيء ما.
هل تعرف ما الذي يمكنه أن يفعل ذلك؟ إنه الإجماع العلمي!
يُفهم اصطلاح الإجماع العلمي أو الاتفاق العلمي دائمًا بشكل خاطئ من قبل الناس، فهو أولًا لا يعني إجماع كل العلماء، ولكنه توجه يشير إلى أن غالبية العلماء يميلون لدعم توجه ما بسبب أن النشاط البحثي يميل لتأييده بعد فترة طويلة من البحث والتقصي والنتائج التي صمدت أمام التمحيص العقلاني والتجريبي، يمكن أن يوجد علماء لا يتفقون مع هذا التوجه ولا يمثل هذا مشكلة، لكن المشكلة تظهر حينما يتم التوسل بممثل الأقلية العلمية على أنه "الحقيقة العلمية"، يظهر ذلك بوضوح في القضايا الجدلية كما أسلفت، كالتطور واللقاحات والتغير المناخي.
يمثل إجماع العلماء مجموعة ضخمة وقوية ومتسقة من الملاحظات والقياسات والتجارب العلمية والنتائج التي تتبعها، وبالتالي فهو أقوى ما في العلم، لكنه مع ذلك لا يعني "الحقيقة العلمية"، بل يشير إلى موقف البحث العلمي الحالي، بالتالي فالإجماع العلمي ليس نهاية البحث العلمي بل هو فقط النقطة التي يجب أن ننطلق من خلالها، ولا مانع من أن تظهر حقائق جديدة ويتغير الإجماع العلمي القائم بعد فترة زمنية ما، لقد حدث هذا في تاريخنا كثيرًا.
في النهاية، يبقى أن الخطأ ممكن، والتدليس وارد، لكن حالة التشكك المنظم التي تتفشى في جوانب المجتمع العلمي تبقى آلية هامة لإصلاح الأخطاء في العملية العلمية، وهذا كما أظن هو سر قوة العلم منذ نشأته.