جائزة إيج نوبل

جائزة إيج نوبل.. دراما العلم الساخرة

في فيلم نهاية هوليوود، يقوم وودي آلن بدور مخرج أعمال دعائية للتليفزيون، يطمح إلى تصوير فيلم روائي. وعندما تأتيه الفرصة يصاب بعمى نفسي من فرط التوتر، إلا أنه لا يتراجع ويستكمل تصوير الفيلم وهو مصاب فعليًا بالعمى، وعندما يُشفى يكتشف أنه أخرج فيلمًا كارثيًا، ورغم ذلك يستقبله الجمهور الفرنسي بالإشادة. وهنا يقول آلن مُتهكمًا، "الحمد لله أن الفرنسيين موجودون!".

قد يبدو هذا أمرًا مقبولًا في عوالم الفنون، فالذائقة قد تختلف وما لا يعجبك ربما يعجب غيرك، وما تراه جميلًا ربما يظنه آخر فوضويًا، لدرجة أن البعض قد يرى في فيلم لمخرج مصاب بالعمى قيمة وجمالًا وتفردًا. إلا أن هذا الأمر يختلف بالتأكيد فيما يتعلق بالعلم، أليس كذلك؟

يقول الفيزيائي ريتشارد فاينمان: "من المفاجئ أن الناس لا يؤمنون بوجود الخيال في العلم، وهو خيال من نوع مثير للغاية، لا يشبه ذلك الذي للفنان. إذ أن صعوبته الكبرى في محاولة تخيل شيئًا لم تره أبدًا من قبل، شيئًا متسقًا من كل وجه مع ما سبق رؤيته، ومختلفا عما ظُنَّ من قبل، وعلاوة على ذلك يجب أن يكون محددًا، لا مقترحًا مبهمًا، إنه بالفعل لأمر صعب". 

ظن البعض قديمًا أننا عند تكوين النظريات العلمية يجب أن ننطلق من حقائق ما، تدفعنا إلى افتراض أمور على علاقة بتلك الحقائق ومن ثم اختبار تلك الفرضيات والوصول إلى نتائج جديدة وتعميمها، إلا أن تاريخ العلم أظهر لنا أن الأمور لم تكن دائمًا تسير وفق هذه الوتيرة. 

ربما يأتي هنا دور الخيال الذي يتحدث عنه فاينمان، إنه خيال نشط قد يأتي بفكرة بعيدة جدًا، ربما لم تسبق رؤيتها أو الظن فيها من قبل، إلا أن الشرط الذي يجعلها علمية هو أن تكون متجانسة مع ما نعرفه من قبل وما أثبتته التجارب وأن تكون محددة وواضحة وربما تطرح جديدًا، يمكن اختباره بالتجربة.

لا يقف الأمر عند هذا الحد فكثير من الأفكار الثورية في العلم في وقتها قوبلت بتهكم شديد، وليس أدل على ذلك من استقبال فرضية أينشتاين الذاهبة إلى أن الضوء قد يأتي في صورة كمّات منفصلة من الطاقة، بتشكك شديد وهي الكمات التي نعرفها اليوم باسم الفوتونات. 

أو السخرية التي وُجِّهت إلى دي بروي حين اقترح أن الجسيمات المادية مثل الإلكترونات ربما لا تمتلك طبيعة جسيمية فقط بل ربما يكون لها طبيعة موجية كذلك، تتصرف أحيانا مثل أمواج البحر، وهي الفرضية التي صارت تمثل فيما بعد أحد مبادئ نظرية الكم وأطلقوا عليها في ذلك الحين اسم (الكوميديا الفرنسية).

مارك أبراهامز يطارد حلمه المختلف

هل مرت أفكار مثل هذه الأفكار برأس مارك أبراهامز عندما قرر تدشين جائزة إيج نوبل الساخرة والمثيرة للجدل؟ 

يبدو أنه أراد أن يؤكد كذلك على أن العلم ليس ذلك المتزمت القاسي فقط، بل ثمة جانب ساخر فيه وكثير من ممارسيه يتمتعون بخفة الظل ويقدرون الطرفة ويعرفون أهمية الابتسامة. 

يبدو ذلك واضحًا في الشعار الذي ترفعه المجلة التي تنظم هذه الجائزة، مجلة "الأبحاث غير المحتملة"، والذي ينص على التالي: "بحث يجعل الناس يضحكون.. ثم يفكرون". إن الهدف ليس السخرية في حد ذاتها بل الابتسام ومن ثم إعمال الفكر والتأمل.

في الأول من يونيو عام ٢٠٠٤، كتب أبراهامز مقالًا في صحيفة الجارديان، تحت عنوان "اضحك أولًا، فكر لاحقًا"، أشار فيه إلى أن ما قام به ويقوم به هو ما اعتاد عليه منذ كان في العاشرة من عمره: "البحث عن الأشياء التي قد تختلف قليلًا عما تبدو عليه، الكتابة عن العلم والأمور المرحة، طرح المعضلات بخصوص ما الحقيقي وما ليس حقيقيًا، ما الجيد وما ليس جيدًا، ما المهم وما ليس مهما".

ثم يقص أبراهامز قصته وكيف درس في جامعة هارفارد وتَخصص في الرياضيات وكيف كان بيل جيتس يسبقه بعام، لقد أنشأ مثله كمثل بيل جيتس شركة للبرمجيات لكنه يستطرد ساخرًا "[إلا أنني] على عكسه ارتكبت خطأ التخرج من الكلية". فيما بعد فكر أبراهامز في تأسيس مجلة وهو ما حمل نهاية مشروعه في البرمجيات.

وفي عام ١٩٩٠ اكتشف أبراهامز أنه لو لم ينشر المقالات المرحة التي يكتبها، فسوف يشعر بكآبة شديدة عندما يتقدم في السن من دون أن يحقق ذلك الحلم. راسل وقتها مجلة (الأبحاث غير القابلة للتكرار)، المجلة الوحيدة تقريبًا التي قد تهتم بنشر مقالات مثل مقالاته. اكتشف أن المجلة كانت تمر بظروف صعبة وبيعت لشركة تملك العديد من المجلات، عرضت عليه الشركة المالكة أن يدير المجلة بشرط ألا يحملهم أي أعباء مالية.

وبالرغم من نجاح أبراهامز، قررت الشركة المالكة لها التخلي عنها، وقال رئيسها آنذاك فيما قاله لأبراهامز إنها لا تساوي شيئا.

عندها قرر أبراهامز تأسيس مجلة جديدة وهي "الأبحاث غير المحتملة"، لتلعب الدور الذي افتقر إليه المجتمع العلمي حينها وكان في حاجة إليه، وهو تقديم العلم بعيدًا عن صورته النمطية، وعلى نحو مرح.

جائزة إيج نوبل.. "توقف من فضلك: أصابني الملل"

أنشأ أبراهامز هذه الجائزة عندما كان رئيس تحرير مجلة "النتائج غير القابلة للتكرار"، وفي ذلك الوقت كانت تُمنح للاكتشافات "التي لا يمكن -أو لا يجب- تكرارها"، أما الآن فتنظمها مجلة "الأبحاث غير المحتملة"،  "احتفاءً بالمنجزات التي تجعل الناس يضحكون في البداية ثم تجعلهم يفكرون". 

ويبدو من اسم الجائزة أنه يحمل تلاعبًا بالألفاظ، إذ ثمة جناس بين اسم جائزة إيج نوبل واسم جائزة نوبل الشهيرة، وتعني كلمة إيجنوبل ignoble في الإنجليزية المفتقر إلى النبالة والسؤدد. 

تمنح الجائزة كل عام في عشرة مجالات مختلفة، بعضها مجالات جائزة نوبل نفسها مثل الفيزياء والكيمياء والفسيولوجيا والأدب والسلام والاقتصاد، كما تمنح في مجالات أخرى مثل الصحة العامة والهندسة والبيولوجيا وعلوم البيئة وعلم الحركة وعلم الحشرات وطب القلب التطبيقي وغيرها.

اقرأ أيضاً:  لماذا لا يتفاعل الناس إلا مع عدد محدود من الميمز؟

وتوزع جوائز إيج نوبل في حفل يقام كل عام، كان يقام في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في البداية، إلا أنه يقام حاليا ومنذ عام ١٩٩٤ في مسرح ساندرز بجامعة هارفارد، ويقدم الجوائز مكللون فعليون بجائزة نوبل، إلا أن الحفل يتخلله العديد من الفقرات الساخرة، على سبيل المثال ميس سويتي بو وهي فتاة صغيرة تصرخ بصوت حاد النبرة مقاطعة المتحدثين، "توقف من فضلك: أصابني الملل". 

من الأحداث الطريفة المعتادة كذلك إلقاء صواريخ مصنوعة من الورق على المسرح. ومن الطريف أن المسؤول عن تنظيف المسرح من هذه الصواريخ، كان البروفيسور روي جلوبر الفيزيائي والعالم المتخصص في البصريات، حتى حصل على لقب "حامل المكنسة"، وهكذا صار مشهورًا بين جمهور العلم بأبحاثه وبهذا اللقب إلى أن كُلل بجائزة نوبل في عام ٢٠٠٥. 

لا تقف السخرية عند هذا الحد، بل تحمل الجائزة الممنوحة خفة ظل كبيرة كذلك، إذ يُمنح الفائز ١٠ تريليونات دولار زيمبابوي وبسبب التضخم فإن هذا المال يكاد لا يساوي شيئا فعليًا، وعلى الرغم من هذه القيمة المالية المتدنية والسخرية المصاحبة للجائزة، فإن لها مكانتها المقدرة في الأوساط العلمية وبين الناس. كُتِب عنها في أحد المقالات المنشورة في نيتشر عام ٢٠٠٥: "تأتي [إيج نوبل] بقيمة مالية بسيطة إلا أن لها مكانة أكبر كثيرًا.. كان من بين المقالات المحترمة الفائزة دراسة عن "تأثير موسيقى الدولة على الانتحار" و"أنماط التناسق في الديناميكيات متعددة القطاعات لرقص الهولا هوب".

ومن الجدير بالذكر كذلك أنه قد فاز بهذه الجائزة الطبيب المصري والعالم أحمد شفيق لبحث أجراه على تأثير سراويل البوليستر على الحياة الجنسية للفئران.

جوائز هذا العام 

أُعلِنت جوائز إيج نوبل هذا العام في ١٥ سبتمبر الماضي، وربما تمنحنا فكرة طيبة عن معنى أن نضحك عند سماعنا عنوان البحث في البداية إلا أنه سرعان ما يدعونا للتفكير الفعلي فيه وتأمله.

منحت جائزة طب القلب التطبيقي، لبحث تعرض لدراسة تناغم ضربات قلب أولئك الذين يلتقون للمرة الأولى في موعد غرامي جرى ترتيبه لهم، محاولًا إثبات تناغم ضربات القلب عندما ينجذب الطرفان أحدهما إلى الآخر.

أما جائزة الأدب فذهبت إلى بحث يحلل أسباب صعوبة فهم الوثائق القانونية، مرجعًا الأسباب إلى الكتابة السيئة لغةً وأسلوبًا والمفاهيم القانونية المتخصصة.

وذهبت جائزة البيولوجيا إلى بحث يدرس تأثير تخلص بعض الحشرات مثل العقارب من أجزاء من جسمها بغية الهرب من أعدائها، إذ يتخلص نوع من العقارب من ذيله، ما يؤدي إلى عجز العقرب عن التبرز والإصابة بالإمساك، وقد حاول البحث معرفة مدى تأثير ذلك على حركة العقرب وعلى قدرته على التزاوج، قد تبدو الدراسة غريبة إلا أنه عند التدقيق فيها ربما تكشف عن فعالية تطوير العقارب لقدرة مثل تلك واتساقها مع نظرية التطور.

أما جائزة الطب فذهبت إلى بحث يرجح أن تناول المثلجات عند تعاطي أحد أنواع العلاجات الكيماوية، قد يقلل من أحد الأعراض الجانبية لهذا العلاج وهو التهاب أغشية الفم. قد يبدو البحث غريبًا إلا أن وراءه فكرة أن العلاج بالتبريد قد يكون سببًا في هذه النتيجة وبالتالي يمثل الآيس كريم وسيلة رخيصة ومتوفرة لهذا الأمر.

وذهبت جائزة الهندسة لبحث يدرس الاستعمال الأمثل للأصابع عند إدارة مقابض مفاتيح التحكم.

فيما ذهبت جائزة تاريخ الفن إلى تحليل لمشاهد مرسومة على أوانٍ فخارية ترجع إلى حضارة المايا، وربما تشير إلى أن المايا قد استخدموا الحقن الشرجية من أجل تعاطي الكحوليات في طقوس شعائرية، وهي صورة تخالف ما استقر عن المايا، أنهم يميلون إلى التأمل، لا إلى طقس مثل هذا.

وجائزة الفيزياء ذهبت إلى بحث يؤكد على أن سباحة البط الصغير خلف البطة الأم يقلل من استهلاك البط الصغير للطاقة في السباحة.

أما جائزة السلام فذهبت إلى تطوير خوارزمية تساعد الوشاة في اتخاذ قرار متى يقولون الصدق ومتى يكذبون.

وذهبت جائزة الاقتصاد إلى بحث يفسر رياضيًا لماذا لا يطرق النجاح أبواب الأمهر بل الأوفر حظًا. 

بينما ذهبت جائزة الهندسة الوقائية إلى تطوير دمية للغزال الأمريكي الضخم من أجل استخدامها في دراسة اصطدام السيارات بحيوانات الغابات.

ما الهدف إذن؟

قد يظن البعض أن هذه الجائزة تمتهن العلم أو تسخر منه. في الواقع الأمر على عكس ذلك تمامًا والدليل هو إقبال العلماء الكبير على المشاركة. عندما يقع الاختيار على أحدهم فإن إدارة الجائزة تتصل به ومن يرفض شرف الحصول على الجائزة يُنَّحى في سرية تامة، إلا أنه من الواضح أن الغالبية ترحب بالمشاركة وبإعلان فوزهم بالجائزة بل يشاركون كذلك في الاحتفالية، هذا بالإضافة إلى أن من يسلمون الجوائز هم مكللون بنوبل كما يُقام الحفل في مؤسسة علمية مرموقة.

بل حدث وأن كُلل أحد الفائزين بإيج نوبل بجائزة نوبل نفسها وهو سير أندريه جيم إذ فاز في عام ٢٠٠٠ بجائزة إيج نوبل لأنه قام برفع ضفدع باستخدام المغناطيسات، ثم فاز في عام ٢٠١٠ بجائزة نوبل بسبب أبحاثه على مادة الجرافين. 

يبدو العلم الجاد أحيانا غريبًا وربما عبثيًا، ويمتلك كثير من العلماء روح دعابة حاضرة. هذا هو هدف الجائزة إلقاء الضوء على العلم لكن بصورة مغايرة وتقريبه من الجمهور العام. كثير من عناوين الأبحاث الفائزة تكون جادة جدًا وربما معقدة وتخصصية إلا أن الجائزة تكسر ذلك وتنفذ إلى اللب بطريقة سحرية وتدعوك للضحك أولًا ثم للتأمل لاحقا.

أخيرا أتمنى لك حظًا سعيدًا، فربما تفوز يومًا بالجائزة وتعتلي المسرح ويرمونك بالصواريخ الورقية وتصيح فيك ميس سويتي بو: "توقف من فضلك: أصابني الملل"، وبعدها بأعوام قليلة تُكلل بجائزة نوبل نفسها وربما حينها تشارك مرة أخرى في جوائز إيج نوبل عندما تسلم الفائزين جائزتهم الضخمة وقيمتها ١٠ تريليونات دولار تنزاني. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share