يقولون إن الأخطاء التحكيمية جزء من متعة كرة القدم، ولذلك عارض الكثيرون إدخال التقنيات الحديثة في اللعبة. تستهدف التقنيات الحديثة التقليل من وقوع الأخطاء قدر المستطاع وبالتالي قد تقضي على الكثير من المتعة والإثارة والجدل الذي قد يدور أثناء المباراة وبعدها.
لعلكم تذكرون الهدف الشهير لمارادونا في مرمى إنجلترا في الدور ربع النهائي في كأس العالم عام ١٩٨٦، والذي أحرزه بيده اليسرى التي لم يرها الحكم وهي تدفع الكرة وبالتالي احتسب الهدف؛ لتنتهي المباراة بفوز منتخب الأرجنتين على منتخب إنجلترا ٢ – ١ وهو الفوز الذي تكلل في النهاية بفوز الأرجنتين باللقب. وعلق مارادونا على الهدف: "إنها يد الله!"
مثَّل هذا الخطأ أحد أشهر الأخطاء التي عرفتها كرة القدم، ويبدو أن ما زاد من أسطوريته أنه جاء من لاعب متربع على عرش اللعبة وكان سبيلًا للفوز بأهم جائزة حصدها هذا اللاعب، دعم الجميع مهارة مارادونا الفذة وكفاحه حتى صار أيقونة في عالم كرة القدم وتمنى الجميع فوزه بالكأس وباركوه عندما حدث، بل ابتسموا عندما سمعوا تعليقه على الهدف.
المثير في الأمر أن هذا الخطأ نفسه انكشف بسبب التقنية، تخيلوا أن خطأ مثل هذا حدث قبل تصوير المباريات أو قبل تصويرها بكاميرات ذات دقة معقولة وموزعة في زوايا مختلفة كاشفة، هل كان سينكشف؟ هل كان مارادونا سيبوح يومًا بالسر؟ وكيف كان سيتلقاه الناس حينها؟
كرة القدم تاريخ من التقنية
يذهب البعض إلى أن التقنية قد تفسد روح كرة القدم وتغير اللعبة التي نعرفها. تغيرت كرة القدم وما زالت تتغير بالفعل إلا أن التغير بسبب التقنية وتدخلها في اللعبة ليس أمرًا حديثًا. فكرة القدم لا تتغير لأننا نستمر في تعديل قوانينها فقط لكنها تتطور كذلك بفعل تطور الحضارة وزيادة قدرتنا على إنتاج تقنيات، ربما لم يحلم أحد بها يومًا.
رغبتنا في الإبقاء على ذكرياتنا التي تتعلق ببعض الأمور المحببة شيء مفهوم، ولا تتنافى أبدًا مع نمو معارفنا العلمية وقدراتنا التقنية وتداخلها -الذي لا مناص منه- مع كل مناحي الحياة، بما في ذلك لعبة كرة القدم.
لعب الصينيون كرة القدم قبل قرنين ونصف من ميلاد المسيح، ركلوا في ذلك الوقت كرة مصنوعة من مثانة أحد الحيوانات، ينفخونها ويتلهون بها. ثم فكر البعض في تطوير تلك الكرة، ماذا لو أحطنا مثانة الحيوان بالجلد، سوف يجعل هذا جدارها أكثر قوة ويجعل سطحها مستويًا بدرجة أكبر. وفي عام ١٨٥٥، استطاع تشارلز جوديير أن يصنع أول كرة من المطاط، صارت الكرة ذات حجم وشكل منضبط. نعرف اليوم كرات من المطاط مزودة بصمام من أجل نفخها بالهواء ومغطاة بطبقات من مواد مختلفة كي تصير أنعم وأخف، يمكن ركلها بقوة شديدة من دون أن تصيب ضاربها ومن دون أن تبلى سريعًا.
هذا ما فعلته التقنية بالكرة نفسها، محور اللعبة، تخيل لو كنا ما نزال نطارد في مبارياتنا كرات منبعجة مصنوعة من أمعاء خنزير.
التقنيات الحديثة
لم يقف الأمر عند ذلك، فقد تجاوزت تقنياتنا تلك الحدود بكثير. عرفت بطولات كرة القدم الكبرى الكرات الذكية، وهي كرات مزودة بشريحة وحساس، ترسل بيانات عن موضع الكرة والطريقة التي تتحرك بها، على سبيل المثال، تحتوي الكرة التي صنعتها شركة أديداس لكأس العالم هذا العام على حساس يرسل بياناته بمعدل خمسين مرة في الثانية الواحدة، من أجل تحليلها مع أمور أخرى من أجل مساعدة الحكام في اتخاذ القرارات ومراجعة مواضع اللبس التي حددت قوانين اللعبة الحديثة وجوب تدخل التقنية فيها.
عرف كأس العالم الذي أقيم في البرازيل عام ٢٠١٤ تقنية خط حراسة المرمى، وهي التقنية التي ما تزال تستخدم حتى اليوم، وتحاول بشدة أن تلغي أي خطأ في احتساب الأهداف. تشتمل هذه التقنية على ١٤ كاميرا، تلتقط ٥٠٠ صورة في الثانية الواحدة، تتصل بوحدة معالجة تعيد تشكيل صورة ثلاثية الأبعاد للكرة، وفور أن ترصد الكاميرات ووحدة معالجة البيانات عبور الكرة بكامل محيطها لخط المرمى، ترسل إشارة إلى ساعة الحكم، تنبهه إلى الهدف المسجل.
في الحقيقة ثمة تقنية أخرى قد تستخدم للتأكد من عبور الكرة بكاملها لخط المرمى لكنها تعتمد على مبدأ فيزيائي آخر ووسيلة مختلفة. تقوم على تشغيل مجال مغناطيسي منخفض التردد في منطقة المرمى، ومجال آخر في داخل الكرة أو حولها، يعمل النظام على تحليل البيانات وعندما يخلص إلى عبور الكرة لخط المرمى يرسل تنبيهًا لساعة حكم المباراة.
كما نعرف جميعًا بالطبع تقنية حكم الفيديو المساعد، إذ يجلس هذا الحكم أمام شاشة متصلة بعدد كبير من الكاميرات كي يراجع بعض قرارات حكم الساحة ومساعديّ الحكم، التي حدد قانون كرة القدم الحديث وجوب تدخله فيها، مثل التأكيد على صحة الأهداف، وقرارات عقاب أحد اللاعبين بالطرد أو احتساب ضربات الجزاء.
تقنية التسلل نصف الآلية
يبدو أن تقنية حكم الفيديو المساعد لم تكن على القدر المطلوب، سواء من ناحية تلافي الأخطاء أو قدرة معارفنا وإمكاناتنا الحالية على صنع تقنيات أكثر دقة، وعلى قدر أكبر من التعقيد والإحكام ولا تسمح بتدخل العنصر البشري، إلا بدرجة قليلة للغاية.
ربما كان ذلك وراء ابتكار تقنية التسلل نصف الآلية، إذ تُسخَّر ١٢ كاميرا مثبتة في أرجاء الملعب المختلفة، ترسل بيانات عن مواضع اللاعبين والكرة، يحلل النظام ٢٩ نقطة على كل لاعب من أجل تعيين كل مواضع أطرافه وامتدادات جسده التي تتداخل مع احتساب التسلل "الأوفسايد"، ترسل الكاميرات بيانات النقاط التي تتعقبها ٥٠ مرة في الثانية الواحدة. عندما تصل الكرة إلى مهاجم في موضع تسلل يرسل النظام تنبيهًا لحكم الفيديو المساعد، الذي يراجع الحالة ثم يرسل بدوره إلى حكم المباراة.
ويستمر الجدل
تهدف هذه التقنيات الحديثة كلها إلى كرة قدم أكثر عدالة ولا عجب أن يفرز عصرنا المولع بالتقنية مثل هذه التقنيات الحديثة المعقدة، ولا عجب أن تستفيد كرة القدم من قدراتنا الحديثة على الابتكار كما استفادت في السابق كثيرًا، فكما أوضحنا كان تطور المواد التي تُصنع منها الكرة نفسها خير مثال على استفادة اللعبة من كل تطور للحضارة، فاللعبة والطريقة التي تُلعَب بها هي في النهاية واحدة من الصور المعبرة عن العصر، يتجلى فيها.
إلا أن كل هذه التقنيات لم تنهِ الجدل ويبدو أنه لن ينتهي قريبًا. بل إن هذا التدخل السريع والسافر للتقنيات الحديثة في اللعبة نفسها، صار يطرح تساؤلات أخرى، تتعلق بالذكاء الاصطناعي نفسه والنُظُم الآلية. إلى أي مدى نسمح لها بالتدخل في شؤوننا وإلى أي مدى يجب أن نعتمد عليها ونثق فيها. صحيح أن الذكاء الاصطناعي يمنع الكثير من أخطائنا في الحكم والتصرف لكنه قد يرتكب أخطاء من نوع آخر، كما أننا حتى اللحظة لم نعرف ذكاء اصطناعي يعرف الحدس، بالإضافة إلى أن ذلك الذكاء عرضة للاختراق والتحكم به، وبما أننا نثق فيه أكثر مما نثق في أنفسنا، قد نكذب ما نراه لصالحه.
بعيدًا عن مثل هذه الأمور العامة والعميقة، أشرت إلى أن استخدام هذه التقنيات أثار تساؤلات حول احتمال أن تتسبب في نزع روح كرة القدم وقدرتها على إثارة المتعة والحماس والجدل.
الغريب أننا وجدنا مع هذه التقنيات إثارة ومتعة وجدل من نوع مختلف، ولا أدري إن كان هذا يعود إلى حداثة عهدنا بهذه التقنيات، وبالتالي إلى أننا لم نعرف بعد حدودها ونثق فيها بالقدر الكافي، أم يعود إلى قدرتها على إثارة خلافات من نوع آخر؟ وفي الحقيقة أنا أكثر ميلًا للطرح الثاني.
بدأ الجدل مع كرة في أولى مباريات مونديال هذا العام قطر ٢٠٢٢، ففي مباراة الافتتاح بين قطر والإكوادور، ألغت تقنية التسلل نصف الآلية هدفًا لصالح الإكوادور بداعي التسلل. ذهب البعض إلى أن ثمة خطأ في رسم الخطوط. في الحقيقة ترسم التقنية الخطوط بشكل آلي ولا يمكن لأحد المشاهدين التأكد بصورة يقينية من صحة هذه الخطوط، لأن رصد تقدم شخص عن الآخر يعتمد على أن تكون محاذيًا للشخصين وتنظر من هذه الزاوية المحاذية، لكن النظر إلى الصورة من أي زاوية أخرى قد يغير مما تراه بعض الشيء بسبب ما يُعرَف بتغير المنظور.
جرب أن تنظر على سبيل المثال إلى شجرتين متجاورتين، ثم تحرك وانظر إليهما من زاوية مختلفة وكرر الأمر، في كل مرة ستتغير علاقة الشجرتين بإحداهما الأخرى وبالخلفية التي تقع من ورائهما، هذا هو تغير المنظور. ربما كان هذا هو السبب في اعتماد التقنية على ١٢ كاميرا من أجل رسم صورة دقيقة ثلاثية الأبعاد لكل لاعب في الملعب ورسم خط التسلل بشكل دقيق إلى أبعد الحدود، بعيدًا عن التدخل البشري إلا في اعتماد ما تشير به التقنية.
في مباراة البرتغال وأوروجواي لعب برونو فرنانديز لاعب البرتغال كرة عرضية، قفز كريستيانو رونالدو كي يلعبها برأسه وبدا أنه للوهلة الأولى قد مسها مسًا خفيفا ثم استقرت الكرة في المرمى. احتسب الهدف في النهاية لبرونو فرنانديز، وأوضحت الصور الملتقطة أن رونالدو ربما لم يلعب الكرة، إلا أن كثيرين شككوا في قدرة الصور على إبراز الحقيقة، قيل فيما بعد أن الحساس الموجود في الكرة لم يرصد أي تغير في سرعتها أو اتجاهها عندما حاول رونالدو أن يلعبها وبالتالي هو لم يمسها بالتأكيد، ورغم ذلك لم يتوقف الجدل والتهكم.
وفي مباراة تونس وفرنسا. سجلت فرنسا هدف التعادل في الوقت بدل الضائع وألغاه الحكم بداعي التسلل، بعد مراجعة الصورة مع حكم الفيديو المساعد. في الحقيقة رصدت التقنية لاعبًا متسللًا لكنه لم يمس الكرة، لعب لاعب تونس الكرة برأسه وقبل أن يلعبها كان المهاجم المتسلل قد عدل من وضعه ولم يعد متسللًا. إنها لعبة جديدة إذن ولا يجب احتساب مخالفة على لاعب فرنسا لأن الكرة قد وصلت إليه من الخصم بعد لعبة جديدة.
في الحقيقة يظهر هنا دور العامل البشري في التقنية الحديثة، إذ تركت له التقنية مساحة للفعل. ينص القانون على أن هذه الكرة المرتدة من الخصم كي تحتسب لعبة جديدة، يجب أن يلعبها مدافع تونس وهو متحكم تمامًا في الكرة ودون ضغط أو محاولة مضنية للوصول للكرة، وقد ارتأى الحكمان أن هذا لم يحدث، لذا لم يعتبروا الكرة القادمة منه لعبة جديدة واحتسبوا التسلل.
خلاصة القول
لقد أثرت التقنية طوال تاريخ كرة القدم في اللعبة وطريقة ممارستها إلا أن ما نشهده مؤخرًا في هذا الصدد بلا مثيل. إن كرة القدم هي انعكاس لحضارتنا وتقنياتنا ونحن نعيش في عالم البيانات الكثيرة وتحليلها والذكاء الاصطناعي والكاميرات والحساسات، وطبيعي أن يتداخل ذلك مع الكرة، فنرى محللو الأداء وأجهزة قياس قدرات العضلات والخطط المبنية على هذه المعلومات، طبيعي أن نرى الكرة واللاعبين مراقبين بأجهزة استشعار شديدة الحساسية، تحلل كل حركاتهم وسكناتهم وتزود الحكام بوسائل لاتخاذ القرارات ما كانوا يحلمون بها.
هذه الوسائل لم تلغِ الدور البشري تمامًا كما بيننا، وهو أمر جيد في اعتقادي، فالذكاء الاصطناعي حتى اللحظة لا يعرف الحدس، إلا أن هذا الأمر غير مضمون في المستقبل!
ما زالت هذه التقنيات تثير جدلًا كبيرًا، فبالرغم من أننا على الأرجح لن نرى مارادونا آخر يضع هدفًا بيده ويحتسب، فقد صار مارادونا هذا العصر واقعًا تمامًا تحت رقابة "الأخ الأكبر"، إلا أننا نكتم الأنفاس في كل مرة يسجل فيها الهدف وننتظر حكم التقنيات النهائي بخصوصه، شخصيًا لم أعايش كأس عالم كل قرارات الحكام فيه موضع إثارة وتنتظر التعديل أو الإقرار، فصافرة الحكم وما نراه لم يعد نهائيًا ومؤكدًا بل قابلًا للتغير، بل قد يحتاج إلى عدة دقائق حتى يتبدل، كما شاهدنا مع الهدف الذي احتسب لرونالدو وبعد دقائق احتسب لبرونو فرنانديز بعد أن أكدت الصور وحساس الكرة أنه لم يلمسها على الأغلب!
وبالرغم من كل هذه التقنيات ما زلنا نرى حالات ما زالت مثيرة للجدل، ففي مباراة اليابان وإسبانيا سجلت اليابان هدفًا، قال البعض إن الكرة فيه ربما تكون خرجت خارج الملعب، في الحقيقة لا يفيد الحساس الموضوع داخل الكرة في هذا الموقف، وكذلك لا يفيد نظام عين الصقر (الكاميرات التي ترسم صورة ثلاثية الأبعاد لمسار الكرة)، إذ صُمِّم للتأكد من عبور الكرة خط المرمى فقط، ولا وسيلة للتأكد من الأمر سوى مراجعة الكاميرات، وفي الحقيقة لا يمكن إلا لكاميرا محاذية للخط أو عمودية تمامًا عليه رصد هذا الأمر بشكل دقيق.
هل يعني هذا أننا بحاجة إلى مد بساط التقنية أكثر؟ هل نراقب كل الخطوط بتلك الدقة؟
ثمة أمر آخر، في بعض الأحيان تتأخر الفيفا أو اتحادات الكرة في توفير الصورة الصحيحة التي اتُخِذ بناء عليها القرار وهو ما حدث على سبيل المثال في حالة هدف اليابان الإشكالي في مرمى إسبانيا، فهل نحن بحاجة كذلك إلى وسيلة لتوفير مثل تلك الصور للعامة لحظيًا أو بعد دقائق قليلة؟
المؤكد أن كرة القدم كانت مثيرة وما تزال مثيرة!