إنها حكاية من حكايا الطبيعة العجيبة عن ثلاث حشرات تتماس عوالمها الضئيلة بعوالم أضخم بكثير لتحدث فيها أثرًا بالغًا يدعو للدهشة والتأمل. فكيف يمكن لحشرة أن تعيش بداخل حشرة تقبع بدورها في حشرة أخري؟ وكيف يمكن لتلك الحشرات الثلاثة أن تتحكم في مصائر ملايين من الشجر وآلاف من البشر؟
بدأت الحكاية في تسعينات القرن العشرين بمصادفة صغيرة مكنت حشرة خضراء ضئيلة من أن تنتقل - بغير قصد منها - من موطنها الأصلي بآسيا إلى أمريكا الشمالية. تلك المصادفة الغريبة التي حولت تلك الحشرة المعروفة باسم "حفار الرماد الزمردي" من مجرد حشرة ذات ألق زمردي إلى عدو للخضرة وقاتل للحياة. حيث أن غربة تلك الحشرة عن موطنها الأم جعلت منها غازيا ينشد الدمار والخراب بعدوانه على أشجار "الدردار" المنتشرة بكثافة في العالم الجديد.
"حفار الرماد الزمردي" تلك الحشرة التي تنتمي إلى مجموعة "الحشرات القشرية"، وهي فئة من الحشرات المتطفلة التي تحصل على غذائها دون بذل مجهود من الكائنات التي تتطفل عليها، وذلك عبر الاغتذاء على أقوات تلك الكائنات لتسبب لها ضررا بالغا. وهذا ما تقوم به حشرة حفار الرماد الزمردي خلال تطفلها على أشجار الدردار، حيث تقوم بحفر ثقوب بلحاء تلك الأشجار لتمتص منها العصارة المحملة بالعناصر الغذائية المنقولة من الجذور إلى الأجزاء العليا عبر النسيج الوعائي. وتستمر الحشرة في ذلك النهب المقيت لغذاء الشجرة بشراهة ونهم لا محدودين، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى مقتل شجرة الدردار في غضون عدة سنوات.
اجتاحت جحافل حفار الرماد الزمردي مساحات شاسعة من القارة الأمريكية الشمالية منذ هجرتها غير المقصودة نهاية القرن الماضي، فقد انتشرت في 22 ولاية أمريكية بجانب أجزاء من كندا، مما أدى إلى القضاء على حوالي ما بين 150 إلى 200 مليون شجرة دردار، وللأسف فإن هذا الرقم مرشح للزيادة في المستقبل.
وكما نعلم فإن دور الأشجار في تنقية الهواء من الملوثات يؤثر على صحة الإنسان، حيث يقلل من فرص حدوث المشاكل الصحية المرتبطة بالتلوث كأمراض القلب والجهاز التنفسي. مما يعني أن استباحة حشرة حفار الرماد لملايين أشجار الدردار سيؤثر على الإنسان بالتأكيد، وهذا ما تمكن العلماء من إثباته عبر عدد من الدراسات التي بينت أن تلك الحشرة الخضراء قد تسببت في حوالي 21 ألف حالة وفاة بشكل غير مباشر. أي أن تلك الحشرة الضئيلة لم تكتف بإثمها بقتل ملايين الأشجار لتضيف إليه جرما آخر بقتل آلاف من البشر.
لكن الغريب في الأمر أن تلك الحشرة الصغيرة لم تتسبب في كل تلك التأثيرات المهولة حينما كانت في موطنها الأصلي بآسيا. وهنا يبرز سؤال محير للغاية لماذا لم يؤد الاعتداء الصارخ لتلك الحفارات الخضراء الزمردية إلى ذلك التناقص المليوني لاعداد الأشجار، والتسبب في وفيات تقدر بالآلاف في آسيا كما هو الحال في أمريكا الشمالية؟!
هل تعلم ان بعض الحشرات تفرز الحليب؟ تعرف على حليب الصرصور
بعد البحث والتقصي لهذا اللغز العجيب وجد العلماء أن السر وراء الحد من اجتياح حفار الزمرد الأخضر في موطنه الأصلي هو وجود عدو طبيعي له لم ينتقل معه إلى موطنه الجديد. فالمنقذ للشجر والبشر من هذا الاعتداء الزمردي مقابلة لتطفله بتطفل أخر شبيه فريد من نوعه. فكما تتطفل تلك الحشرات على الأشجار لتسلبها قوتها يتطفل عليها طفيلي آخر يتمثل في حشرة صغيرة للغاية لا يتعدى طولها 2 ملليمتر تعيش في صورة "شبه طفيلية" داخل حشرة حفار الزمرد الأخضر وتتسبب في مقتلها.
و"أشباه الطفيليات" تلك هي فئة فريدة من الكائنات تمارس التطفل بصورة تختلف عن التطفل الحقيقي. فهي تقضي شطرا كبيرا من حياتها بداخل كائن آخر تقتات على غذائه، لكنها بدلا من أن تكون ممتنة بذلك الاغتذاء من الكائن المضيف فإنها تقوم باستهلاكه تماما وقتله، وذلك بعكس الطفيليات "الحقيقية" التي لا تتسبب في مقتل مضيفها. وهذا ما تقوم به تلك الحشرة الصغيرة للغاية والتي تقضي معظم حياتها داخل حشرة حفار الرماد القشرية وتودي بها إلى الهلاك، لتصبح على ضآلتها عدوا لدودا للحفار الزمردي الأخضر وصديقة لخضرة الأشجار ومنقذة لحياة البشر.
إلا أن الطبيعة تأبي منح اليد الطولي لتلك الحشرات الشبه طفيلية على حفار الرماد الزمردي، فهناك مفترس آخر أكثر ضآلة وأصغر حجما يتطفل عليها بنفس الطريقة ليقتلها. ويعد ذلك التطفل على شبيه المتطفل علاقة شديدة الغرابة في عالم الأحياء يطلق عليها "شبه التطفل الثانوي" أو "تطفل التطفل". لتخلق بذلك الطبيعة توازنا مدهشا لم نتمكن من الإحاطة بكل أسراره بعد، ولينكشف لنا أن السر وراء كل ما حدث بأمريكا الشمالية من إهلاك للحرث والنسل هو الإخلال بالتوازن الطبيعي للنظام البيئي نتيجة لدخول كائن جديد دون مفترسه.
إن البحث والتقصي الذي قام به العلماء لإماطة اللثام عن ذلك اللغز قد بين لنا أن العلاقات بين الكائنات الحية يحكمها عدد من المصائر المتشابكة المعقدة لا تعترف بالحجوم أو الذكاء. فها هو مصير شجرة ضخمة في يد حشرة صغيرة تعيش عليها، وها هي حشرة ضئيلة للغاية لا تتجاوز أجزاء من الألف من المتر يمكنها إنقاذ الكائن الأذكى والأرقى. فالمشهد في النهاية مجرد حشرة تعيش داخل حشرة تقبع بدورها في حشرة أخرى، وكل هذا من شأنه التحكم في مصير ملايين من الشجر وآلاف من البشر!