في أواخر أغسطس الماضي، كشفت شركة "تسلا" الأمريكية الشهيرة في مؤتمرها السنوي عن "أوبتيموس"، أحدث ابتكاراتها في مجال الذكاء الاصطناعي؛ وهو روبوت شبه بشري أذهل الحشد بحركاته والمهام التي يستطيع تأديتها، حتى تصدرت أخباره الصحف العالمية.
ليس إنجاز "تسلا" هو الأول أو حتى الأخير من نوعه، فقد شهد عالمنا في العقود الأخيرة تطورات تقنية بالغة وتقدم غير مسبوق في مجال الذكاء الاصطناعي.
قد تظن أن هذه التطورات بعيدة إلى حد كبير عن حياتك اليومية، لكن بمجرد النظر في الأمر، ستكتشف أنه لم تمر سوى ساعات محدودة أو حتى أقل على آخر مرة تحدثت فيها إلى "سيري"؛ مساعدتك الشخصية الخاصة بهاتفك، أو على آخر مرة تصفحت فيها أحد مواقع التواصل الاجتماعي التي تذهلك بعرض إعلان ذلك المنتج الذي ذكرت رغبتك في شرائه منذ دقائق، لكنك تظن أنها مجرد صدفة.
تدرك في نهاية المطاف أنك محاط بالآلاف، بل بالملايين من تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تكاد تسيطر على يومك. شئنا أم أبينا، فهي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن في حين يتوجه العالم أجمع إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة لإنقاذ عالمنا، يظل التساؤل المحير؛ هل يكون الذكاء الاصطناعي الذي يكاد يهيمن على حياتنا حليفنا لإنقاذ عالمنا؟ أم يقف عائقًا في طريقنا نحو الاستدامة؟
الذكاء الاصطناعي ومبادئ الاستدامة
مرت سبع سنوات منذ أعلنت الأمم المتحدة في عام 2015، سبعة عشر هدفًا للتنمية المستدامة لمواجهة التحديات التي يشهدها عالمنا؛ بما في ذلك الفقر والجوع وعدم المساواة وتغير المناخ وصحة الأفراد والكثير من الأهداف الأخرى التي يمكن جمعها تحت ثلاثة محاور رئيسية؛ أهداف بيئية واقتصادية ومجتمعية.
ومع أهمية مجال الذكاء الاصطناعي المتنامي بشكل فائق السرعة، وحاجتنا الملحة إلى الالتزام بمبادئ التنمية المستدامة لحماية عالمنا، توجهت الأنظار إلى دراسة تأثير ذلك المجال على قدرتنا على تحقيق تلك المبادئ. وفي هذا السياق، نشرت دورية "نيتشر" دراسة تكشف أنه في حين قد يساعدنا الذكاء الاصطناعي في تحقيق بعض أهداف الاستدامة، إلّا أنه على النقيض، قد يهدم تقدم بعض الأهداف الأخرى.
الذكاء الاصطناعي في مواجهة التحديات البيئية
لحسن الحظ، يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على تعزيز الجهود العالمية لحماية البيئة والحفاظ على الموارد. على سبيل المثال، تساعدنا تقنيات الذكاء الاصطناعي في ترشيد استخدام الطاقة سواء داخل المنشآت أو في مدن بأكملها، من خلال نشر أجهزة الاستشعار والعدادات الذكية للمراقبة والتحليل وجمع البيانات.
كما يتم استخدام الذكاء الاصطناعي أيضًا في مجال النقل الذكي، ولعلك بالفعل أحد مستخدمي تطبيق خرائط جوجل، الذي يعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتوفير المعلومات المتعلقة بتدفق حركة المرور والازدحام، ما يضمن سلامة الأفراد والتخفيف من الكثافة المرورية عن طريق طرح طرق بديلة للمستخدم.
أضف إلى ذلك، إمكانية تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات من المناطق التي يصعب الوصول إليها مثل قاع المحيطات، ما يمكننا من مراقبة مستوى التلوث وتغيرات درجة الحرارة، كما يمكننا من رصد التغيرات التي تحدث للكائنات البحرية، وبالتالي يساعدنا في الحفاظ على التنوع البيولوجي.
كما يمكن أن تعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب مع البيانات التي يتم جمعها من الأقمار الصناعية ومنصات الاستشعار المتقدمة، للتنبؤ بالتغيرات المناخية الحادة؛ مثل الزلازل والفيضانات والعواصف وتغيرات مستوى سطح البحر وغيرها من المخاطر الطبيعية المحتملة. يمكن أن تساعد هذه التكنولوجيا الهيئات المعنية لاتخاذ الإجراءات اللازمة في الوقت المناسب، مثل إجلاء الأفراد من المناطق المهددة بالخطر.
التأثيرات الاقتصادية
قد يكون للمزايا التكنولوجية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي تأثير إيجابي على تحقيق عدد من أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالاقتصاد، لكن تظل هناك أيضًا بعض الآثار السلبية المحتملة التي لا يمكن غض الطرف عنها، والمرتبطة بشكل أساسي بعدم المساواة بين الأفراد.
تخيل معي إذا اعتمدت الأسواق المستقبلية بشكل أساسي على تحليل البيانات المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولم تكن هذه الموارد متاحة بالتساوي في البلدان النامية، فما النتيجة إلّا زيادة هائلة في الفجوة الاقتصادية -الموجودة بالفعل- بسبب عدم المساواة، ما يؤثر بشكل كبير على أهداف التنمية المستدامة.
كما قد تؤدي تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى تفاقم مشكلة عدم المساواة المجتمعية من خلال استبدال الوظائف القديمة بأخرى تتطلب المزيد من المهارات؛ حيث تتغير الحاجة إلى القوى العاملة البشرية ما قد يؤدي إلى فقدان آلاف الناس وظائفهم.
وفي دراسة حديثة أشارت إحدى شركات الخدمات المهنية بالمملكة المتحدة، إلى أن 47% من إجمالي 700 وظيفة تمت دراستها، معرضة لخطر الاستبدال الكامل بالآلات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي.
تكمن المشكلة في تحديد مسؤوليات جديدة ووظائف لم تكن موجودة من قبل تتطلب مهارات متخصصة. كل ذلك قد يسبب ضغوطًا متزايدة على أفراد المجتمع وقد تتسبب في تفاقم المشكلات النفسية والعقلية لديهم.
التأثيرات الاجتماعية
قد يسهم الذكاء الاصطناعي في مواجهة العديد من المشكلات الاجتماعية التي تعنى بها أهداف التنمية المستدامة؛ خاصةً مشكلة الفقر التي تسود العديد من بلدان العالم. في العديد من المناطق التي ينتشر فيها الفقر، يكتسب المواطنون دخلهم من خلال الزراعة. لذا يمثل الاهتمام بتحسين سبل الزراعة خيط الأمل الذي علينا التشبث به للنهضة بهذه المجتمعات.
ولعل من أبرز الأمثلة التي عنيت بهذا الأمر هو مشروع "فارم فيو" الذي أطلقه متخصصو الذكاء الاصطناعي في جامعة "كارنيجي ميلون" بالولايات المتحدة، والذي يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز استدامة المحاصيل الغذائية الأساسية في البلدان النامية.
كذلك يمكن أن يؤثر الذكاء الاصطناعي في مستويات التعليم بالمناطق الفقيرة. فطالما كان هناك إمكانية للوصول إلى الإنترنت، يمكن تسخير الذكاء الاصطناعي كمعلم لتوجيه التلاميذ خلال المنهج الدراسي دون الحاجة إلى عنصر بشري ذو خبرة.
ولا يقتصر الأمر على مجرد توجيه التلاميذ فحسب، بل يستخدم الذكاء الاصطناعي التحليلات لتقييم مستوى التعلم ومهارات التلاميذ الفردية. يمكن أن تقضي هذه التقنيات على العوائق المادية وعدم المساواة التي يواجهها الكثيرون في جميع أنحاء العالم في مجال التعليم.
لكن في الوقت نفسه، قد يكون للذكاء الاصطناعي تأثيرات اجتماعية سلبية تتمثل في أغلب الأحيان في اختراق خصوصية المستخدمين والقدرة على استقطابهم نحو آراء معينة من خلال إظهار محتوى يتوافق مع تلك الآراء.
على كل حال، فإن بعض الشخصيات العامة الشهيرة في مجال العلوم والتكنولوجيا؛ مثل "بيل جيتس" و"ستيفن هوكينج" و"ستيف وزنياك" يؤكدون على المخاطر العديدة المرتبطة بتطوير الذكاء الاصطناعي، وأنه ليس لدينا في الوقت الحالي أي فكرة عن مستقبل هذه التقنيات، بل إن هناك احتمالية بأن يؤدي تطورها دون ضوابط إلى تقييدنا من خلال أنظمة الذكاء الفائقة التي نطورها.
وفي حين لا يمكننا وقف تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلّا أنه يمكننا تسخيرها وضبطها بالمعايير الأخلاقية التي تضمن عدم وقوفها عائقًا في طريقنا نحو عالم أكثر استدامة.