النفايات الفضائية قد تخرج عن السيطرة!

في عام 2013، اكتسح فيلم الخيال العلمي والإثارة "جرافيتي" دور العرض المحلية والعالمية ليلقى رواجًا كبيرًا بين المشاهدين، ويحصد العديد من الجوائز العالمية التي من أبرزها سبع جوائز أوسكار في عام واحد! 

تقوم فكرة الفيلم على سيناريو -بدا خياليًا في ذلك الحين- يبدأ بتدمير أحد الأقمار الصناعية الذي ينتج عنه حطامًا يظل يدور حول الأرض. يصطدم الحطام بعدد من الأقمار الصناعية الأخرى، ليتولد المزيد والمزيد من الشظايا المحلقة في الفضاء من جراء تلك التصادمات العنيفة. 

وتتوالى التصادمات فلا تقتصر على الأقمار الصناعية فحسب، بل تفتِك بتلسكوب هابل الفضائي الشهير، وتشمل بعض المركبات الفضائية الضخمة التابعة لوكالة ناسا، ما يسفر عن مقتل العديد من أفراد الطاقم على متن هذه المركبات.

ولا يتبقى في مرمى النيران سوى محطة الفضاء الدولية، التي لا تصمد طويلًا أمام هذا الوابل من الشظايا التي تحلق في الفضاء بسرعة فائقة، فيتم تدميرها إيذانًا بانتهاء حقبة استكشاف البشر للفضاء.

دراما خيالية أم واقع أليم؟

في حين يبدو هذا المشهد الدرامي خياليًا إلى حد كبير، إلّا أنه قد يكون حقيقة نشهدها في المستقبل القريب، بل -في الحقيقة- قد بدأت بعض أحداثه منذ عقود. ففي فبراير عام 2009، تصدر عناوين الصحف العالمية خبر اصطدام  القمر الصناعي الروسي كوزموس 2251 بقمر الاتصالات الأمريكي إريديوم 33، ما أدى إلى إطلاق ما يقرب من 2000 قطعة من الشظايا والحطام متفواتة الأحجام والأشكال لتحوم في الفضاء.

وفي عام 2018، وتحديدًا يوم الإثنين الموافق 2 يوليو، كانت المركبة الفضائية كريوسات-2 تدور في مدارها على ارتفاع 700 كيلومتر فوق سطح الأرض كالمعتاد لتراقب الجليد على كوكب الأرض، ليدرك مراقبو المهمة في وكالة الفضاء الأوروبية أنهم يواجهون قطعة من الحطام الفضائي تندفع تجاههم.

استمر المراقبون في رصد تحرك الحطام تجاه كريوسات-2، ووجدوا أنه يقترب من المركبة ببطء، ما أجبر القائمين على المهمة على اتخاذ إجراء فوري بدفع المركبة إلى مدار أعلى، لتفادي الاصطدام المدمر. وبعد خمسين دقيقة فقط، رصد المراقبون مرور الحطام بجانب المركبة بسرعة 4.1 كيلومتر في الثانية.

كل هذه الحوادث تعد إثباتًا قويًا لتأثير يطلق عليه "تأثير كيسلر" للنفايات الفضائية.

يوضح طبيب التخدير أحمد سمير سعد، وهو أيضًا كاتب وروائي، كتب وترجم العديد من الكتب العلمية لا سيما في مجال الفضاء: "إن الأسباب التي فاقمت من مشكلة النفايات الفضائية كثيرة جدًا، ويتعلق أغلبها بالأجزاء المتبقية من مراحل إطلاق مركبات الفضاء والأقمار الصناعية المهجورة، بل أحيانًا التجارب التي تجريها بعض الدول لاستهداف أقمار صناعية تخلت عنها؛ وذلك من أجل اختبار قدرتها على تدمير أقمار العدو الصناعية إذا قامت حرب". 

ويضيف سعد في حديث خاص إلى منصة ساينتفك عرب: "بعض النفايات الفضائية التي تدور حول الأرض في مدارات منخفضة قد تدخل إلى الأرض وتحترق في الغلاف الجوي في مدى زمني قصير، لكن الأزمة الأكبر تتعلق بالنفايات الفضائية التي تدور حول الأرض على ارتفاعات أعلى، إذ تبقى لسنوات طويلة جدًا".

"صندوق البيتزا" في مواجهة النفايات الفضائية

أدى انخفاض تكاليف تصميم وإطلاق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية نسبيًا في الوقت الحالي، إلى تزايد أعدادها بمعدل غير مسبوق، ما يجعل قضية السيطرة على النفايات الفضائية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. 

ولا تقتصر مخاطر هذه النفايات على تهديد سلامة المركبات الفضائية فحسب، بل قد تصل إلى حروب دولية. وفي هذا السياق يقول سعد، "للأسف لو دارت حرب واسعة دولية مستقبلية فلن تكون ساحتها الأرض أو البحر أو حتى الغلاف الجوي فقط، بل سوف تمتد إلى الفضاء، خصوصًا مع إنشاء بعض الدول لوحدات عسكرية معنية بالسيطرة على الفضاء وقت الحرب وإجراء تجارب تستهدف أقمارًا صناعية".

وتخلف مثل هذه التجارب الكثير من النفايات الفضائية، "لكن لو قامت حرب بالفعل وبدأ تدمير شامل للأقمار الصناعية للدول المتصارعة، فسوف نكون أمام كارثة ضخمة بكل المقاييس، وبالتالي يجب أن تتجه الجهود ابتداءًا من اللحظة نحو استصدار اتفاقيات تمنع هذه التجارب"، على حد قول سعد.

وفي هذا السياق، وضع تحالف سلامة الفضاء في عام 2019، مجموعة من الإرشادات المقترحة لمواجهة مشكلة النفايات الفضائية وتأثير كيسلر.

شملت هذه التوصيات أن تكون جميع الأقمار الصناعية التي تعمل على بعد يتجاوز 400 كيلومتر- وهو الارتفاع الذي تحلق به محطة الفضاء الدولية- مزودة بأنظمة دفع تسمح لها بالمناورة بعيدًا عن الاصطدامات المحتملة.

حيث تواجه الأقمار الصناعية التي تدور أسفل هذ الارتفاع ما يكفي من السحب الجوي، الذي يدفعها إلى السقوط نحو الأرض بعد فترة وجيزة نسبيًا من انتهاء فترة تشغيلها، بدلًا من استمرار تحليقها في الفضاء بسرعات هائلة، ما يحد من تأثيرها الخطير فيما يتعلق بمشكلة النفايات الفضائية.

كما طورت وكالة ناسا مجموعة من الإرشادات طويلة الأمد، لضمان سلامة محطة الفضاء الدولية وطاقمها، من خلال تقييم مدى الخطر الذي تواجهه من جراء هذه النفايات الفضائية.

من جانبه يرى سعد أن "النفايات الفضائية تمثل خطرًا كبيرًا على المهمات الفضائية، وتولي مؤسسات استكشاف الفضاء عنايتها برصد هذه النفايات وتعقب مساراتها وتحليلها من أجل تفادي أي اصطدام معها، كما ترسم ما يشبه الصندوق حول أي مهمة فضائية، يطلق عليه "صندوق البيتزا" لأنه متوازي أضلاع يشبه بالفعل علبة البيتزا".

يضم هذا الصندوق الوهمي، الذي تبلغ أبعاده 4 × 50 × 50 كيلومتر، محطة الفضاء الدولية في مركزه. وعندما يرصد المراقبون أي جسم غريب أو حطام فضائي يقترب من ذلك الصندوق الوهمي، تعمل مراكز التحكم في هيوستن وموسكو معًا لتقييم الوضع واتخاذ الإجراء المناسب.

قد يكون الإجراء المناسب هو تحريك محطة الفضاء الدولية قليلًا فيما يُعرف بـ "مناورات تفادي الحطام". وفي أوقات أخرى، قد لا تكون بيانات التتبع دقيقة بما يكفي لكنها تشير إلى احتمالية التصادم، ما يجعل الإجراء المناسب في ذلك الوقت هو تأمين حياة طاقم العمل من خلال نقلهم إلى مركبة الفضاء الروسية سويوز أو مركبات الطاقم التجارية الأمريكية.

"ما تزال الأمور الآن تحت السيطرة إلى حد ما، لكن قد لا يبقى الحال على هذه الصورة في المستقبل، وهو ما يستدعي التعامل مع هذه المشكلة بشكل حاسم، قبل أن تهدد استكشاف الفضاء بالفعل"، من وجهة نظر سعد.

ماذا عن النفايات الفضائية الحالية؟

تعتمد أغلب الإجراءات السابقة على تفادي خطر التصادم بالنفايات الفضائية التي تحلق في سمائنا، لكنها لا تستهدف المشكلة الجذرية؛ وهي وجود تلك النفايات من الأساس.

في هذا السياق، طور الباحثون طرقًا لاستهداف هذه المشكلة؛ أبرزها:

تكمن المشكلة في أن أغلب هذه التقنيات تعتمد على  إعادة هذه النفايات إلى الأرض، إما لتدميرها في الغلاف الجوي أو لتستقر في محيطاتنا، التي تواجه بالفعل العديد من المشكلات، ولا تنتظر أن يُضاف إليها المزيد من نفايات الفضاء. 

يعتقد سعد، أن الغلاف الجوي قادر على حرق أغلب النفايات الفضائية لو وجهت فعليًا صوبه كي تسقط فيه، "وأظن أن الأجزاء التي قد تصل إلى المحيطات سوف تكون صغيرة جدًا"

أما عن تسبيبها لتلوث المحيطات فهذا الأمر بحاجة لدراسة، ويعتمد بالأساس على المواد التي قد تجد طريقها إلى المحيطات؛ نوعها وكميتها. ولكن "أعتقد في الوقت الحالي أن النفايات الفضائية لا تقارن بأي حال بالنفايات البشرية الأرضية التي قد تجد طريقها إلى المحيطات كل يوم وقد تهدد فعليًا الثروة الطبيعية".

قضية النفايات الفضائية تمثل مشكلة تستلزم إيجاد طرق عملية صديقة للبيئة للسيطرة عليها، كما توجب اتخاذ إجراءات صارمة للحد من تكونها من الأساس. فلا يعقل أن يكون طموحنا في استكشاف الفضاء ومحاولة إيجاد الحياة به، سببًا في دمار الأرض.