التحدث ليس السبيل الوحيد للتعبير، إذ يمكن إرسال الرسائل اللغوية عن طريق الإشارات اليدوية، أو الكتابة اليدوية، أو الرسائل النصية. لكن الكلام هو الأسلوب الأصلي والأساسي للتواصل البشري. لذا فإن فهم أصوله يمكن أن يولد فهمًا أعمق للغة بشكل عام. يعتقد العالِم المعرفي "ويليام تيكومسيه فيتش" أن الخطوة الأولى نحو هذا الفهم هي إدراك أن الجوانب الأساسية للغة الصوتية ليست حكرًا على البشر، كما يُشاع.
لا يتحدّث فيتش عن شخصية حصان في عرض تلفزيوني، أو رسوم متحركة متكلّمة في إعلانات التأمين، إذ أن وجهة نظره هي أن العديد من المخلوقات من مملكة الحيوانات في العالم الحقيقي تقدم أدلة حول كيفية تطوّر القدرة على الكلام.
صحيح أن البشر، والبشر وحدهم، طوّروا مجموعة معقدة من مهارات معالجة الصوت والسمع والدماغ مما أتاح تواصلًا صوتيًا متطورًا واسع النطاق. ومع ذلك، يمكن للحيوانات أن تصدر أصواتًا معقدة؛ يمكن أن تحاكي الببغاوات كلام الإنسان ويمكن للقطط أن تبلغك بوضوح أن وقت الطعام قد حان. تمتلك العديد من الحيوانات حاسة سمع حادة، وتستطيع التمييز بين الضوضاء العشوائية والتواصل المتعمد. لذا، على الرغم من أن البشر فقط هم من يمتلكون القدرة اللغوية الكاملة، فإن مكونات القدرة اللغوية "لها جذور تطورية عميقة جدًا"، كما يقول فيتش من جامعة فيينا. في الواقع، فإنه يقترح أن حفنة من التغييرات في مرجعية التواصل لدى أسلاف البشر منحت الناس مهارات اللغة الكاملة.
تمتلك جميع الفقاريات التي تعيش على الأرض - أي رباعيات الأرجل - بما في ذلك الثدييات والطيور والبرمائيات والزواحف، البُنى الفسيولوجية والأعضاء اللازمة للسمع والتحدّث، كتب فيتش في دورية "Annual Review of Linguistics": "يشترك البشر في البُنى الأساسية للسمع والإنتاج الصوتي مع رباعيات الأرجل الأخرى بنسبة كبيرة".
تمتلك أشكال الحياة التي تشغل العديد من فروع شجرة الحياة أدوات تشريحية لإنتاج وإدراك التواصل الصوتي. يقول فيتش أن قدرة الإنسان تفوق قدرة أسلافه من خلال تطور مسارات الدماغ التي تتكيف مع القدرة البشرية الفريدة على التعبير اللغوي المعقد.
من الناحية التاريخية، اقترح خبراء اللغة تفسيرات تشريحية لمنشأ اللغة الخاصة بالإنسان؛ تمامًا كما سمح الإبهام المقابل لباقي الأصابع باستخدام الأدوات، افترضت بعض الآراء أن الموقع السفلي للحنجرة في القناة الصوتية مكّن من التعبير عن الأصوات المفيدة، أو أن جهاز السمع البشري، الذي يشمل خلايا الشعرية الصوتية وطبلة الأذن وثلاثة عظام صغيرة، قد منح الأذن القدرة الفريدة على تفسير الأصوات الدقيقة. لكن في مراجعة الأدبيات العلمية، وجد فيتش أن المكونات الفرعية الهيكلية للكلام، المستخدمة لإنتاج الأصوات وإدراك الأنماط في تلك الأصوات، ظهرت في كائنات متعددة على مر الزمن التطوري.
على سبيل المثال، الخلايا الشعرية الصوتية الحسية للأذن، التي تحول الاهتزازات الصوتية إلى نبضات عصبية، تعود إلى قنديل البحر. وتتشابه الجينات الأساسية في إنتاج الخلايا الشعرية الصوتية لدى الحشرات والبشر.
في بعض الحالات، تطورت سمة معينة بشكل مستقل في سلالات مختلفة، ولكن غالبًا ما تتطور السمة مرة ثم تنتقل عبر سلسلة طويلة من الأحفاد. يلاحظ فيتش أن مثل هذه السمات "المتماثلة" توفر ما يشبه آلة الزمن التي تسمح لنا بإعادة بناء تسلسل تطوري لأشكال الأجداد.
من ناحية أخرى، توفر السمات الناشئة بشكل مستقل بيانات مفيدة لاختبار الفرضيات التطورية. أنتجت هذه السمات الموروثة المتماثلة والسمات المماثلة المستقلة مجتمعةً نظرة عميقة وجديدة للأصول التطورية للكلام.
من بين رباعيات الأرجل، طورت الثدييات سمعًا أكثر حساسية، وقادر على التعامل مع نطاق أوسع من الترددات وبالتالي أكثر قدرة على معالجة الفروق الدقيقة في النطق. على سبيل المثال، كان أسلاف البشر الرئيسيين يمتلكون قدرة سمعية عالية. كتب فيتش: "لا يوجد شيء في الأذن البشرية يختلف بشكل لافت للنظر عن أذن الرئيسيات الأخرى". ويضيف: "كان جهاز السمع المحيطي لدينا في مكانه لدى أسلافنا الرئيسيين، بشكله الحديث الأساسي قبل وقت طويل من تطويرنا القدرة على الكلام."
ولكن ربما يتطلب الإدراك الناجح للكلام "تطبيع المسالك الصوتية" - القدرة على التعرف على الكلمات نفسها التي تنطق بأصوات مختلفة (مثل طفل مقابل رجل عجوز). ومع ذلك، فإن البشر ليسوا وحدهم من لديهم القدرة أيضًا. تم تدريب عصافير الزيبرا على التعرف على أحرف العلة (الأحرف الصوتية) عند الاستماع إلى صوت ذكر، وكان بإمكانها تمييزها عندما يكون المتحدث امرأة.
ربما تكون المهارة الأساسية الخاصة بالبشر فقط هي القدرة على معرفة أي من الأصوات المعقدة العديدة في العالم هي جهود صوتية للتواصل. في جزء الدماغ البشري الذي يستجيب للأصوات (القشرة السمعية في الفص الصدغي)، تكون بعض الدوائر متخصصة لأصوات دون غيرها. لكن مثل هذه الدوائر الخاصة بالصوت توجد أيضًا في الرئيسيات وربما الكلاب.
كتب فيتش: "أدت البيانات إلى استنتاج مفاده أن النظام السمعي لدى الرئيسيات قد تطور بالفعل إلى مستوى من التطور "الجاهز للكلام "قبل فترة طويلة من تطور اللغة المنطوقة في جنسنا البشري".
إذا لم تكن مهارة السمع هي مصدر القوة اللغوية للإنسان، فربما تكمن قدرة الإنسان فقط على الكلام في القدرة على إنتاجه. يمكن أن تصدر الرئيسيات ضوضاء صوتية، ولكن على عكس فيلم "كوكب القردة العليا “Planet of the Apes، فإنها لا تستطيع لفظ الأصوات الدقيقة للكلام. لكن ليس من الواضح لما لا، إذ أن المخطط الأساسي للقناة الصوتية البشرية كان موجودًا منذ 70 مليون سنة وتشاركه معظم الثدييات. حتى الموضع السفلي لصندوق الصوت - الحنجرة الهابطة - ليس حكرًا على البشر. وهذا التعديل التشريحي ليس ضروريًا للنطق المعقد بأي حال. أظهرت التجارب أن لدى بعض الرئيسيات قنوات صوتية ذات خفة صوتية كبيرة.
كتب فيتش: "إن القناة الصوتية غير المعدلة لدى الرئيسيات أو الثدييات ستكون كافية تمامًا لإنتاج لغة منطوقة مفهومة".
إلى جانب كل ذلك، يمكن للببغاوات والعديد من أنواع الطيور الأخرى وبعض الخفافيش وحتى الفيلة تقليد الأصوات. لذلك لا يمكن أن تعتمد ميزة الكلام للبشر على قدرة الإنتاج الصوتي فقط. بالنظر إلى جميع الأدلة، فإن المهارات الصوتية والسمعية للحيوانات المختلفة تحكي قصة ذات ممهدات عديدة لقصة الكلام البشري. تكشف هذه الحكاية أن البشر اكتسبوا الكلام ليس من خلال الابتكارات التشريحية للنطق والسمع، ولكن من خلال الاتصالات العصبية الجديدة التي تتحكم في الأجهزة التشريحية.
وعلاوةً عن كل شيء، يتطلب الكلام أكثر من إنتاج الأصوات وإدراكها. يجب أن يقرر دماغ المتحدث الأصوات التي سينتجها، ويصدر تعليمات للجهاز الصوتي في الجسم لإصدارها. ويجب أن يكون دماغ المستمع قادرًا على فك تشفير الإشارات السمعية التي يتلقاها، ومن ثم إصدار أوامر للاستجابة الصوتية. يتمتع البشر بمهارة في إصدار الأصوات استجابةً للأصوات الأخرى - ولهذا السبب يمكنك تكرار كلمة بصوت عالٍ بعد سماعها لأول مرة.
يختلف هذا النطق المتحكّم به للكلمة عن مجرد إحداث ضوضاء. تمتلك معظم الحيوانات دوائر عصبية لإنتاج أصوات "فطرية": عواء الكلاب، وأصوات السناجب، ونعيق طيور النورس. حتى البشر لديهم أصواتهم الفطرية، بما في ذلك البكاء والضحك والصراخ. ولكن بين الرئيسيات، فإن البشر فقط لديهم "القدرة على إنتاج أصوات جديدة ومكتسبة تتجاوز مجموعة النداءات الفطرية"، كما يقول فيتش.
واليوم، فإن الفرضية السائدة التي تشرح هذه القدرة هي وجود روابط خاصة بين مناطق الدماغ المسؤولة عن التحكم في الكلام والسمع. تبدأ الأصوات الفطرية -في البشر وجميع الثدييات الأخرى- بإشارات مباشرة من جذع الدماغ. ثم تتيح الرسائل غير المباشرة من القشرة الدماغية (الطبقة الخارجية الأكثر تقدمًا للدماغ) التحكم إراديًا في تثبيط [L1] أو إنتاج الأصوات الفطرية. على عكس الحيوانات، يمتلك البشر روابط مباشرة بين الخلايا العصبية في القشرة والخلايا العصبية التي تتحكم في العضلات المشغلة للحنجرة. بعض القردة والقردة العليا لها روابط مباشرة من القشرة إلى العضلات التي تتحكم في الشفتين واللسان، ولكن ليس العضلات التي تتحكم في الحنجرة. (تبدو الدوائر التي تربط القشرة السمعية بالقشرة الحركية أيضًا أكثر تطورًا في البشر).
الأدلة التي تدعم وجهة النظر القائلة بأن مثل هذه الروابط العصبية المباشرة تفسر الكلام البشري تأتي من الأنواع الأخرى التي يمكنها "التحدث"، مثل الببغاوات والطيور المغردة التي يمكنها تعلم أصوات جديدة. هذه الأنواع لديها اتصالات عصبية مباشرة بجهاز توليد الصوت الخاص بها، في حين أن الطيور غير الصوتية ليس لديها.
حتى الآن، تعتبر البنية الجينية المسؤولة عن تطور دوائر الدماغ الخاصة بمهارة الكلام البشري غامضة بشكل كبير.
كتب فيتش: "الأسس الجينية ... للوصلات [العصبية] المشاركة في التحكم الصوتي البشري غير معروفة تقريبًا". لكن التحليلات الجينية للكائنات القديمة واختبار الحمض النووي الموجود في الحفريات هو مجال بحثي ناشئ. وبالتالي، ربما توفر البيانات الجينية المسار التجريبي الواعد للبحث المستقبلي حول علم أحياء الكلام وتطوّره.
كما ينوه فيتش، فإن الكلام ليس القصة الكاملة للغة البشرية. التواصل الصوتي هو سمة مركزية، لكن اللغة تشمل أكثر من ذلك بكثير. كما توافقه عالمة اللغة والنفس العصبية أنجيلا فريدريشي في اجتماع عقدته مؤخرًا جمعية علم الأعصاب (the Society for Neuroscience).
قالت فريدريشي، مديرة معهد ماكس بلانك لعلوم الإدراك البشري والدماغ في لايبزيغ بألمانيا: "اللغة أكثر من مجرد كلام". يستخدم "الكلام ... مجموعة محدودة من الأحرف الصوتية والساكنة لتكوين الكلمات. ومع ذلك، فإن اللغة عبارة عن نظام يتكون من كلمات ... ومجموعة من القواعد تسمى القواعد النحوية أو السياق لتكوين العبارات والجمل".
تنوه أيضًا أن الرئيسيات يمكن أن تتعلم معنى الكلمات الفردية، لكنها غير قادرة على دمج الكلمات في تسلسلات ذات مغزى في جملة طويلة. تعتمد هذه القدرة أيضًا على الوصلات التي تربط أجزاء مختلفة من الدماغ، وهو ما تظهر الأبحاث الحالية التي تجريها فريدريشي ومتعاونون معها وعلماء آخرون.
يعتمد فهم هذه الوصلات على مقارنة البنية الخلوية ومسارات الألياف العصبية للدماغ البشري مع دماغ الحيوانات ذات القوة اللغوية الأقل. لذا، بطريقة ما، قد يكون العلماء قادرين على سؤال الحيوانات عن أدلة ليس فقط لتطور الكلام، ولكن لمهارات اللغة بشكل عام أيضًا. الأمر أشبه بالذهاب مباشرة إلى المصدر وطرح الأسئلة عليه.
تم نشر هذا الموضوع بتصريح من Knowable Magazine، التي تصدرها مؤسسة Annual Reviews، وهي مؤسسة غير ربحية تعنى بأمور النشر العلمي، حيث تقوم بانتاج المحتوى المعرفي الذي يسهم بتطور العلوم المختلفة وبالتالي الارتقاء بالمجتمع. سجل الآن للاشتراك في نشرة Knowable البريدية من هنا.