تأثير مانديلا

تأثير مانديلا| أن يضللك عقلك بذكريات زائفة

في جلسة مع بعض أصدقاء المدرسة، دار النقاش حول أستاذ اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، هل كان اسمه "أحمد" أم "محمود"؟ لننقسم إلى مجموعتين، البعض يؤكد أن اسمه أحمد ويحكون عن ذكريات بعينها تؤكد كلامهم، والآخرون متحققون من أن اسمه محمود ويحكون ذكريات أخرى، حتى اضطررنا في النهاية إلى الاحتكام لوالدة أحد الأصدقاء، لتأكد أن اسمه "محمد"

من منا لم يمر بموقف كهذا، تكن متحققًا من ذكرى بعنيها، وربما تدخل في جدالات بسببها، دون أن تدرك أحيانًا أن عقلك ربما يكون خدّاعًا، وأن ذكرياتك التي تظن أنها حقيقة لا تقبل الجدل، ربما لا يكون لها وجود من الأساس. 

تأثير مانديلا والذكريات الزائفة

يعرف تأثير مانديلا بأنه نوع شائع ومثير للجدل من الذاكرة الزائفة، وغالبًا ما يشير إلى موقف بعينه يعتقد الكثير من الناس أنه حدث، بينما لم يحدث أبدًا في الواقع. ظهر مصطلح "تأثير مانديلا" عام 2009، على يد "فيرونا بروم" التي كانت تحضر أحد المؤتمرات مع مجموعة من الأشخاص، وإذا بالنقاش يذهب إلى تذكرها لمأساة وفاة "نيلسون مانديلا" في أحد سجون جنوب أفريقيا في الثمانينيات. 

في الحقيقة، وعلى الرغم من معاناة "نيلسون مانديلا" مع السجن في جنوب أفريقيا، إلا أنه لم يمت في الثمانينيات داخل السجن، ولكنه خرج من السجن وتولى منصب رئيس دولة جنوب أفريقيا، ولم يمت حتى العام 2013. 

تفاجئت "بروم" بهذه الحقائق، لتنشئ موقعًا إلكترونيًا تحكي فيه عن تذكرها لوفاة "مانديلا" بالثمانينيات، وتحكي عن خطبة الوداع المؤثرة التي ألقتها أرملته، لتزداد دهشة "بروم" بأن هناك عدد كبير من الناس يتذكرون نفس الأحداث والذكريات حول وفاة "مانديلا"، بل ويأكدون على أنهم تابعوا التغطية الإخبارية الكاملة لهذا الحدث. 

في هذه اللحظة أطلقت "بروم" على هذه الظاهرة اسم "تأثير مانديلا"، لتبدأ العديد من المناقشات ويحاول الباحثون العثور على تفسيرات واضحة لمثل هذه الذاكرة الزائفة، التي تجمع بين الكثيرين في الوقت نفسه، ولا تقتصر فقط على حدث وفاة "نيلسون مانديلا" ولكن تمتد لتشمل أحداث أخرى وذكريات نابعة من الثقافة الشعبية لكل بلد في العالم. 

حسب دراسة منشورة عام 2020 بمجلة Psychological Science عن الذاكرة؛ عندما يُطلب من شخص ما تذكر معلومات بعينها، فإن 76% من البالغين ارتكبوا في الأقل خطأ واحدًا في تذكر هذه المعلومات، وعلى الرغم من أن دقة ذاكرة المشاركين في هذه الدراسة كانت عالية جدًا، إلا أن البحث يسلط الضوء على فكرة الذكريات الزائفة، وأن المخ يمكن أن يختلق بعض التفاصيل والأحداث، ويحتفظ بها على صورتها، حتى تصبح بمثابة حقيقة لا تقبل الجدال. 

السمات البارزة بتأثير مانديلا

تأثير مانديلا

التفسيرات المحتملة لتأثير مانديلا

منذ عام 2009 حتى هذه اللحظة، تبنت معظم الآراء نظريتين لتفسير هذه الظاهرة وهي: 

  • الأكوان الموازية

يربط الكثيرون بين تأثير مانديلا وفيزياء الكم، حيث يفسرون هذه الظاهرة وفقًا للنظرية القائلة بأن الأحداث لا تقع وفق جدول زمني واحد، ولكنها تحدث في أكوان موازية بتفاصيل وحقائق مختلفة ووفق ترتيب زمني آخر، وعندما تختلط هذه الأحداث في جدولنا الزمني الذي نعيشه في الوقت الحاضر، قد نجد أن البعض شهد ما لم يشهده غيره. 

وفقًا لهذه النظرية، فإن الانتقال بين هذه الأكوان الموازية قد يخلق ذاكرة جميعة للبعض دونًا عن الآخرين، يجعلهم متحققون مما شهدوا من أحداث، وأن هذه الأحداث ليست مختلقة، وإنما حدثت في كون آخر موازي، له واقع مختلف وأحداث مختلفة في بعض التفاصيل، فربما يكون مانديلا قد مات فعلًا في الثمانينيات ولكن في كون موازي ومختلف. 

تقابل هذه النظرية بالكثير من النقد ولا يقتنع بها الكثيرون، نظرًا لأنها تبدو غير واقعية بعض الشيء، ومع ذلك فإن فكرة وجود أكوان موازية لا يمكن دحضها بسهولة، ما يجعل المقتنعون بها يربطون بينها وبين تأثير مانديلا بقوة، معتمدون على عدم قدرة الآخرين على إثبات عدم وجود ما يُسمى بالأكوان الموازية، بينما يستند داعمو هذه النظرية إلى نظرية فيزيائية معروفة للغاية. 

ظواهر الذاكرة التي يمكنها تفسير تأثير مانديلا

تأثير مانديلا
  • الذكريات الزائفة

يربط الكثير من العلماء بين تأثير مانديلا وقدرة المخ على اختلاق أو تصديق بعض الذكريات الزائفة والاحتفاظ بها كحقيقة واضحة يمكن استرجاعها في أي وقت. أشار "تيم هولينز" أستاذ علم النفس التجريبي في  جامعة بليموث في المملكة المتحدة، إلى أن تأثير مانديلا يمكن تفسيره من خلال عدد من ظواهر الذاكرة المعروفة، حيث قسمها "هولينز" إلى ثلاث أنواع متشابهة. 

  • ذاكرة المصدر وتضخم الخيال
اقرأ أيضاً:  المباني الخضراء| مستقبل أفضل لمباني صحية صديقة للبيئة

أحيانًا ما يؤدي انتقال المعلومات من شخص إلى آخر ومنه إلى آخرين، إلى ما يُعرف بأخطاء ذاكرة المصدر، وذلك لأن إعادة رواية الأحداث ربما تفتقد إلى بعض الأدلة أو التفاصيل المهمة، التي يلجأ عقل الراوي إلى سد فجواتها للوصول إلى رواية متكاملة، وعلى الرغم من اعتقاد البعض بأن هذا يندرج تحت البند الكذب والتضليل، إلا أنه في الحقيقة لا يعد كونه محاولة من المخ -رغمًا عن الشخص- للوصول إلى رواية يمكن تصديقها واعتبارها كحقيقة. 

يعد هذا الخلط في الذكريات أحد الأعراض الشائعة للحالات العصبية التي تؤثر على الذاكرة مثل مرض ألزهايمر وبعض أنواع الخرف، التي لا يحاول فيها المريض الكذب أو اختلاق الذكريات، ولكن بسبب تراجع قدرة المخ عن تذكر المعلومات والتفاصيل بوضوح، فإنه ببساطة يلجأ إلى سد هذه الفجوات المعلوماتية بأخرى يرى المخ أنها مناسبة لهذا الحدث بالتحديد. 

كذلك، يشير بعض الباحثين إلى أن "الذاكرة الجوهرية" هي أكثر الظواهر المتعلقة بالمخ ارتباطًا بتأثير مانديلا، وهي عندما يكون لدى شخص ما فكرة عامة عن شيء ولكن لا يعرف بالضرورة كل التفاصيل أو لا يتذكرها، ما يجعله ميالًا إلى تفسيرها وفقًا لمعتقداته وأفكاره، ليتكيف المخ معها ويحتفظ بها كذكرى واضحة كاملة، وهو ما يفسر أيضًا لماذا يمكن أن يتفق الكثيرون على حدث بعينه؟ ذلك لأنهم جميعًا علموا عن الحدث بشكل عام، ولتقارب أفكارهم ومعتقداتهم فسرته أدمغتهم واحتفظت به بشكل يكاد يكون متطابقًا، وفقًا لهذه الأفكار ومصادر المعلومات. 

الإنترنت وتأثير مانديلا

لا ينبغي أبدًا الاستهانة بدور الإنترنت في التأثير على ذكريات الجماهير، وربما ليس الأمر مصادفة، أن يظهر تأثير مانديلا وقصة وفاته في الثمانينات، خلال عصر انتشار الإنترنت. يُعد الإنترنت أحد أقوى وسائل نشر المعلومات حاليًا، خاصةً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واستخدام المليارات لها حول العالم يوميًا، ولكن مع سهولة انتشار هذه المعلومات، ترتفع نسبة ظهور الخرافات والمفاهيم الخاطئة والمضللة. 

على الإنترنت، يمكن لبشر من مجتمعات مختلفة وثقافات متباينة أن يجتمعوا على فكرة واحدة داخل مجموعة مغلقة، تنتشر بداخلها أفكارًا وربما أخبارًا تخدم هذه الفكرة الواحدة التي ينتمون إليها، ما يجعلها بيئة خصبة لنمو وتزايد الشائعات والمفاهيم الخاطئة وبالطبع معها الذكريات والأحداث المزيفة، التي لم يحدث بعضها على الإطلاق أو حدثت ولكن بتفاصيل مختلفة. 

في دراسة كبيرة أُجريت على أكثر من مئة ألف قصة إخبارية ناقشها مستخدمو موقع "تويتر" على مدار 10 سنوات، أظهرت الدراسة أن الخدع والشائعات تغلبت على الحقائق في كل مرة بنسبة 70%، مع التحقق من هوية أصحاب هذه الحسابات على الموقع، وأنها ليست حسابات مزيفة أو مختلقة لترويج أفكار أو أخبار بعينها.

ما يعني أن 70% من المشاركين في هذه الدراسة، نشروا معلومات كاذبة أو مضللة دون أي دراية بأن ما ينشرونه ربما يؤثر في ذاكرة الكثيرين، ويجعلهم يعتقدون أن هذه الإشاعات حقائق مؤكدة. 

أمثلة على تأثير مانديلا

هناك العديد من الحالات التي ينطبق عليها تأثير مانديلا حول العالم، فمنذ اكتشاف هذه الظاهرة، توالت الحوادث في الظهور لتؤكد أن العقل الجمعي للبشر يمكن أن يختلق أحداثًا كثيرة ويحتفظ بها كحقائق. 

أشهر الأمثلة على تأثير مانديلا

  • فوز ليوناردو ديكابريو بالأوسكار: فاز الممثل الشهير بأول جائزة أوسكار في تاريخه عام 2016، ليتفاجئ الكثيرون حول العالم، ويأكدون أنها ليست الأولى له، وأنهم يتذكرون حصوله عليها من قبل، وقد يرجع ذلك إلى ترشحه 5 مرات سابقة، إلا أنه لم يفز بها قبل 2016. 
  • عدد الولايات الأمريكية: على الرغم من أن عدد الولايات الأمريكية 50 ولاية، إلا أن الكثيرين حول العالم (أمريكيين وغيرهم) يعتقدون أنهم 52 ولاية.
  • شوكولاتة كيت كات: يظن الكثيرون حول العالم أن غلاف شوكولاتة كيت كات مكتوب عليه الاسم بهذه الطريقة (Kit-Kat) بينما في الحقيقة لا وجود لهذا الفاصل بين الكلمتين.
  • فيلم "forrest gump": هناك جملة شهيرة يقتبسها الكثيرون عن لسان الشخصية الرئيسية للفيلم التي يؤديها الممثل الشهير "توم هانكس"، بأن الحياة مثل علبة الشوكولاتة، ولكن في الحقيقة، هذه الجملة ليست منسوبة إليه، بل أنه يرويها على لسان أمه.
  • العام الهجري الجديد: مع بداية العام الهجري الحالي 1443، احتج الكثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي قائلين بأن العام الماضي أيضًا كان 1443، بينما ذهب البعض إلى أبعد من ذلك مؤكدين أنهم رأوا وكتبوا هذا التاريخ في أثناء دراستهم في المرحلة الابتدائية منذ ما يزيد عن عشر سنوات. 
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
انفجار نووي, حرب نووية
طالع المزيد

كيف تتصرف عند وقوع انفجار نووي؟

مع احتمالية اشتعال شرارة الحرب العالمية الثالثة التي يتوقع أنها ستكون نووية، بات الكثير منا يتساءل عما يجب أن فعله عند وقوع انفجار نووي بالقرب لتفادي خطر الإشعاع النووي.
Total
0
Share