علم الفلك.. أفضل هواية لتتعلمها وتعلمها لأطفالك

إنه مساء بارد في شهر يناير عام 2014، كان هواة الفلك حول العالم يتراقصون فرحًا على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد انفجار أحد النجوم في مجرة السيجار على مسافة 10 ملايين من السنوات الضوئية، وتُرى كمجرة لامعة بالنسبة لتلسكوب متوسط كالذي أمتلكه، لم أصدق نفسي، فأنا لم أرى مستعرًا أعظم في حياتي إلا في الصور، لذلك ألغيت كل خططي هذا المساء وقررت رصد الظاهرة. 

ساعات قليلة فقط وكنت أعلى سطح منزلي، وجّهت التلسكوب إلى منطقة أعرفها في سماء الليل إلى جوار مجموعة من النجوم تسمى "الدب الأكبر"، وإذا بي أراها. لقد سميت مجرة السيجار بهذا الاسم لسبب وجيه، وهو أنها تظهر كأنها سيجار ضخم في السماء، على أحد جانبي هذا السيجار الضخم رأيت نقطة كبيرة لامعة تنير المجرة كلها، كان هذا هو المستعر الأعظم "SN 2014j"، الانفجار النجمي الذي حدث في المجرة.

فقط تخيّل الأمر، نجم واحد من مليارات النجوم ينفجر فتراه كل المجرة بل والمجرات المجاورة، هذا أشبه ما يكون بأن تتمكن من مشاهدة وفاة سمكة صغيرة في المحيط الهادئ مثلًا من على القمر!

الانفجارات النجمية هي أعنف الأحداث الكونية، وتسمى "مستعرات عظمى"، وهي الحدث الذي يمثل نهاية النجوم العملاقة، تلك التي تفوق الشمس في الكتلة بثماني مرات أو أكثر.

أن تشاهد ذلك بعينيك، هو لا شك شيء مثير للانتباه.

الغوص في محيط من النجوم

ولأن الصعود بالتلسكوب إلى سطح المنزل هو مهمة مرهقة، قررت أن أضع خطة لعملية رصد كاملة تبدأ من التاسعة مساءًا وتنتهي قبيل الفجر، في تلك الليلة. يبدأ الأمر بتحديد أهدافك من ليلة الرصد، تضعها في صورة قائمة على ورقة بسيطة، تكتب فيها الأجرام السماوية التي تود رصدها، بعضًا من المجرات مثلًا، وهي تلك الهياكل الكونية العملاقة التي تحتوي الواحدة منها على مليارات النجوم، وربما تلون المساء بقليل من السُدم، وهي تلك السحب البديعة التي تمثل مناطق ميلاد النجوم (وموتها كذلك)، وغيرها من الأجرام الممتعة.

عادة ما نمتلك نحن هواة الفلك نوعان من المصادر، الأول هو الأطالس الفلكية، تلك التي تشبه أطالس الأرض لكنها ترسم نجوم السماء وما بينها من أجرام، وهناك كذلك كتب خاصة بقوائم الأجرام السماوية التي يمكن أن تراها بتلسكوبك (حسب قدراته)، هذه الكتب لا تفيد فقط في تعريفك بما يمكن أن تراه، ولكنها كذلك تشرحه جيدًا، فإذا كنت مثلًا تتعلم عن مجرة السيجار التي تحدثت عنها قبل قليل، فسيعرفك الكتاب بتاريخ اكتشافها، ونوعها، وملاحظات العلماء عليها، إلى جانب بيانات أخرى معتادة مثل المسافة وعدد النجوم واللمعان ..إلخ.

نموذج لخارطة فلكية

كانت ليلة مثيرة حقًا، واستمتعت بها كثيرًا. لكن هناك ملاحظة مهمة، فحينما تتأمل تلك المجرة هناك، لا تراها بعينيك فقط، ولكن بما تعرفه عنها أيضًا. في التلسكوب تظهر جميع المجرات كلطخات سحابية صغيرة، غير محددة الملامح، لكنك تعلّمت أنها أصغر من درب التبانة، وتختلف عنها في الفئة، وتمتلك نشاطًا عظيمًا في تصنيع النجوم يفوق مجرتنا بمراحل. تتخيل المسافة بينك وبينها، تتأمل الأمر قليلًا، فتشعر بالرهبة والهدوء في آنٍ واحد، وكأنك قد تركت سطح منزلك، وسافرت في الفضاء الرحب.

لفهم الأمر دعنا نتخيّل أن الشمس هي كرة قدم تتواجد الآن في إحدى مدن الدلتا المصرية، إذا كانت الشمس بهذا الحجم فإن أقرب النجوم لها، ويسمى "قنطورس المقدم"، سيكون بحجم كرة تنس أرضي، وسيتواجد في مدينة فرانكفورت بألمانيا، هل تتخيل المسافة؟ نتحدث هنا عن أقرب النجوم إلينا فقط، ويقع على مسافة أربعة سنوات ضوئية تقريبًا، أي حوالي 38 ألف مليار كيلومتر من منزلك!

بعد فترة من متابعة أجرام السماء العميقة، تدرك مدى صغر حجم هذا الكوكب الذي تسكن فيه مقارنة بشراسة اتساع هذا الكون. فمن منظور كائن آخر يوجد على هذا النجم هناك أو تلك المجرة، أنت لا شيء، وحينما تبدأ في هضم ما تعنيه كلمات مثل "أكبر" و"أقرب" على المستوى الفلكي. فسوف يتغير منظورنا للعالم كله، سوف تقف أمام كل ذلك البراح الرحب مجذوبًا كدرويشٍ ثقيل الحمل. 

في تلك اللحظة ربما ستتعلم أن العالم بالأسفل، بما يمتلك من ازدحام مروري، وقضايا سياسية، وحروب أوروبية، ومشكلتك مع الزملاء في العمل، أو ضغط الامتحانات، والتضخم والركود والصراع للحصول على وظيفة، والاجتماعات الفصلية والشيكات التي تتطلب الدفع، ومواعيد التسليم النهائية، هي ربما لا شيء، ولا تهم كثيرًا أمام تلك الحديقة الكونية الواسعة. 

هواية الأسلاف

إن تأمل السماء ليلًا هو فعل بسيط قديم تعود البشر على فعله لآلاف السنوات، في ظلام الليل الدامس كانت السماء هي الخارطة والساعة، وبالتالي تعلموا النجوم كما نتعلم القراءة من نعومة أظفارنا، وقد فعلوا ذلك مع كل شيء في محيطهم، كل مكونات الطبيعة من رمل أو ثلج، وحيوانات، ونباتات، نعرف الآن أن قبائل التشيماني في الأمازون على سبيل المثال لا يتعاملون مع الأشجار في بيئتهم، أو الطيور التي تعيش فوقها، كمصادر للطعام فقط، بل كرفاق في الرحلة، كأشياء لا تنفصل عنهم.

نعرف كذلك أن العرب قديمًا لم يستخدموا النجوم فقط كخارطة، بل كانت أكبر من ذلك بالنسبة لهم، تأمل مثلا حالة مالك ابن الرّيب، نشأ فى بادية بني تميم بالبصرة مع بداية العهد الأموي، وكان مشاكسًا صلبًا ينتهج حياة الصعاليك،  يعمل في قطع الطرق، ولا ينام إلا وسيفه في يده، إلى جانب ذلك فلقد كان شجاعًا وأنيقًا في هندامه وكلامه، التقى ذات مرة بسعيد بن عثمان بن عفان الذي كان ذاهبًا فى طريقه إلى خراسان وأقنعه الأخير بالدخول في جيشه بدلًا من حياة الصعلكة، فوافق. وفي أحد الليالي لدغته أفعى فأيقن أنه سيموت، فقال واحدة من أجمل روائع الشعر العربي، والتي لا تزال تلفت الانتباه إلى الآن، لكن ما لفت نظري حقًا في هذه المرثية، كوني أحب النجوم، هو الأبيات التي قال ابن الريب فيها:

ولما تراءت عند مروٍ منيتيي                                وحلَّ بها جسمي وحانت وفاتيا  
أقول لأصحابي ارفعوني فإنَّني                              يقرُّ بعيني أن سهيلٌ بدا ليا

هلا تلاحظ ذلك؟ حينما تراءى الموت للرجل بالقرب من مدينة مرو وعرف أنه ميتٌ لا محالة، كان أول ما جاء بباله أن طلب من أصحابه رفعه كي يرى سهيلاً، (لأن سهيل نجم جنوبي قريب من الأفق يحتاج أن تكون عاليًا قليلًا عن مستوى الأرض لتراه)، فهو يحب هذا النجم جدًا، ربما يذكره بألعاب الطفولة مع الرفاق عند البادية، أو يذكره بحبيبة قديمة لم ينسها أبدًا.

ملوك الإسمنت

قارن ذلك بنمط حياتنا، يعيش معظمنا في مدن إسمنتية مكدسة، منفصلة عن الطبيعة، فعل التأمل نمارسه فقط في أثناء رحلة بالميكروباص للأقارب في قرية على مسافة عدة عشرات من الكيلومترات، في هذا السياق يقول فيلسوف البيئة الشهير هنريك سكوليموفسكي في كتابه "فلسفة البيئة"، أن معاناة الإنسان الحالية ربما نشأت بسبب انفصالنا عن الطبيعة، وعيشنا ضمن مدن ملوثة لا تُساعد على ما يسميه "تفتحنا الروحي"، وهنا يصور العودة إلى الطبيعة وكأنها عودة الإنسان إلى نفسه.

هذا تحديدًا هو أول الأسباب التي تدفعك لتعلم علم الفلك كهواية، فهو كالشطرنج، هناك من المتخصصين من يمارسه كعمل احترافي في المراصد أو الجامعات أو المراكز البحثية، ويمكن كذلك لأي شخص، كان ضابط أو طبيب أو نجار أو محاسب، أن يمارسه في صورة هواية من حين لآخر دون الحاجة للدخول في تعقيدات فيزيائية ورياضياتية، فقط يخرج من منزله ليتأمل النجوم بعينيه المجردتين ويتعرف على مواقعها وأنواعها، ومع تلسكوب صغير يمكن أن يرى أعدادًا من المجرات والسُدم والتجمعات النجمية.

وهناك بالفعل كتب مخصصة لهواة الفلك فقط، تشرفت بإصدار أحدها، لكن أشهر مؤلفي العالم في هذا النطاق هو السير باتريك مور، البريطاني الذي قضى عمرًا كاملًا في تقديم علم الفلك للهواة، وله آلاف الساعات التلفزيونية إلى جانب عدد هائل من الكتب في هذا النطاق.

أضف لذلك نقطة هامة تتعلق بتعلم علم الفلك كهواية، لها علاقة بالمنهجية العلمية في التفكير، فحينما تتأمل نجم أحمر لامع في سماء الشتاء (ليكن الدَّبَرانُ) مثلا، ستحتاج لتعلم بعض الأشياء عنه مثل المسافة بيننا وبينه، ودرجة حرارة سطحه وكتلته والمرحلة العمرية التي يعيش فيها، ثم هنا تبدأ في التساؤل: كيف نعرف كل هذا؟ هذا النجم يبتعد عنا مسافة عشرات التريليونات من الكيلومترات، لا يمكن أن نسافر إليه، فكيف بنا نعرف كل هذا عنه؟

في تلك النقطة ربما تبدأ في القراءة قليلًا عن الفيزياء الفلكية، وهنا -لو كان ذلك أول لقاء لك مع الفيزياء الفلكية- فربما تنصدم حينما تعرف أن كل تلك المعلومات سببها هو قوانين فيزيائية غاية في الدقة تأخذ معلومات من ضوء النجم، ثم تحوله لأرقام متنوعة تصنع ما يشبه الكتاب عنه، ستلاحظ ذلك في كل شيء تقريبًا، تلك القوانين تتخلل السُدم والمجرات والتجمعات النجمية بنوعيها والنجوم التي تدور حول بعضها، وتلك التي يتغير لمعانها كل فترة زمنية محددة.

في كل مكان بأرض تلك الهواية ستتعلم عن تلك القوانين، لا حاجة لك بدراستها أو حتى حفظها، لكنك على الأقل ستفهم بشكل عملي أن ما يشكل هذا العالم الثلاثي البعد الذي تستشعره حينما تصعد إلى سطح المنزل، هو منهجية في التفكير غاية في الدقة، خاصة حينما تتعلم قليلًا عن علم الكونيات، وتدرس اللحظات الصغيرة جدًا جدًا جدًا الأولى من عمر هذا الكون.

الياباني العجوز الذي أحبه

وإلى جانب كل ما سبق، يمكن أن تساهم ممارسة علم الفلك كهواية في أن تشارك فعليًا في العملية العلمية كمواطن عالم، وهو اصطلاح لا ينتشر كثيرًا في العالم العربي، ويعني أن تسهم في إجراء أبحاث علمية بنشاط لا يحتاج لخبرة بحثية كبيرة، فمثلًا يمكن أن تستخدم تلسكوبك لرصد تغير لمعان بعض النجوم وإرسال النتائج للرابطة الأمريكية لراصدي النجوم المتغيرة، أو تأمل الشهب وأرسل النتائج إلى منظمة الشهب الدولية.

بل ويمكن أن تشارك في بعض المنصات التي تستخدم اللعب لإجراء بحوث فلكية هامة، على سبيل المثال، في لعبة "جالاكسي زوو"، يمكن أن تلتقي بمليون صورة للمجرات الراديوية، مأخوذة من "ماسح سلون الرقمي للسماء"، لعمل تصنيفات ظاهرية للمجرات على حسب أشكالها في الصور. حصلت اللعبة على 50 مليون تصنيف خلال العام الأول من انطلاقها قبل عدة سنوات، وظهر منها ثلاث عشرة نسخة، وهي اللعبة العلمية الأكثر شهرة بين الناس في العالم كله. 

ولا يقف الأمر عند اللعب، على سبيل المثال في ورقة بحثية منشورة في النشرة الشهرية للجمعية الملكية الفلكية، يمكن أن تجد اسم كل من "إيفان تيرينتيف" و"تيم ماتورني" وهما ليسا بعالمين، بل لاعبان في جالاكسي زوو، تمكنا من اكتشاف تجمع ضخم للمجرات يبتعد عنا ما يقرب من مليار سنة ضوئية، حاليًا فإن بعض الأوراق البحثية المنشورة تحتوي على اسم مواطن عالم، شخص مثلك غير متخصص، لكنه ساهم عبر هوايته في البحث العلمي.

بشكل شخصي فإن بطلي المفضل في هذا النطاق هو هاوي الفلك الياباني كويشي إيتاجاكي، الذي تمكن قبل عدة أشهر فقط من اكتشاف مستعر أعظم انفجر قبل 63 مليون سنة في مجرة تدعى "إن جي سي 4647".

ليست هذه المرة الأولى التي يقوم إيتاجاكي فيها بالكشف عن مستعر أعظم مثير للانتباه يقلب مجموعات هواة الفلك في وسائل التواصل الاجتماعي، ففي يناير 2020 اكتشف مستعر أعظم آخر بالقرب من مجرة أخرى تدعى "إن جي سي 4636" وفي 2016 تمكن من الكشف عن مستعر (nova). في المجمل، اكتشف الرجل  العديد من المستعرات داخل مجرتنا وخارجها، إلى جانب مجموعة من المذنبات والكواكب الجديدة!

إيتاجاكي في الرابعة والسبعين من عمره الآن، ولازال الرجل العجوز يمارس هوايته بشكل منتظم، يسافر كل ليلة تقريبًا عدة كيلومترات من منزله إلى منحدرات جبل قريب، حيث يضع تلسكوباته هناك، ويغرق طوال الليل في محيط شاسع من النجوم، فربما يجد نجمًا متفجرًا هنا أو هناك، التعلّم مُلهم، أو كما قال الفلكي الأمريكي كارل ساجان: "الفهم مُفرّح".