من بين أكثر من 310 ملايين عملية جراحية كبرى تُجرى سنويًا في جميع أنحاء العالم، يعاني الملايين من مضاعفات بالغة لتلك الجراحات، أغلبها تتعلق بجروح هذه العمليات؛ ما بين آلام بالغة أو ندبات دائمة، وقد يمتد الأمر إلى عدوى تودي بحياة المريض.
من هذا المنطلق، توجهت الأبحاث إلى تطوير طرق مبتكرة للتعامل مع الجروح، لينتج عنها جيل جديد من التقنيات الحديثة لغلق الجروح.
تاريخ غلق الجروح
أدرك الإنسان منذ قديم الأزل ضرورة غلق الجروح لتفادي الإصابة بالعدوى ولضمان التئامها بشكل أسرع. تم توثيق أول خياطة للجروح في عام 1500 قبل الميلاد بمصر، وكانت الخيوط المستخدمة آنذاك هي خيوط الكتان. وتشير التقارير التاريخية أيضًا إلى استخدام الأشواك ولحاء الشجر والبرشمان (وهي مادة مصنوعة من جلود بعض الحيوانات مثل الأبقار)، لتأدية الوظيفة نفسها.
وبعد مئات السنين، حوالي 1000 عام قبل الميلاد، تم وصف ما يشبه دباسات الجلد التي أطلق عليها "خياطة النمل"، بواسطة الأطباء الشرقيين الذين استخدموا فكي النمل الأسود في غلق الجروح. في الوقت نفسه، عُرفت أيضًا بعض المواد الصمغية التي استخدمت لغلق الجروح.
وفي القرن السادس عشر ابتكر الجراح الفرنسي أمبرواز باريه، شرائط البلاستر اللاصقة التي استخدمت وقتها لعلاج جروح الوجه.
وتوالت بعدها العديد من الأدوات المستخدمة في خياطة الجروح، ما بين شعر الإنسان والحيوان، وخيوط الحرير، والخيوط المصنعة من الألياف الطبيعية الموجودة في جدران أمعاء الحيوانات ويطلق عليها خيوط أمعاء القطط.
وتطورت بعد ذلك المواد والأدوات المستخدمة في التعامل مع الجروح كثيرًا، وأصبحت المواد الاصطناعية مثل بولي أميد أو بولي ديوكسانون أكثر أهمية ولا تزال شائعة الاستخدام، لكن ظلت الجوانب الرئيسية التي لا يمكن غض الطرف عنها عند التعامل مع أي جرح مهما اختلفت خصائصه هي: إيقاف النزيف، منع العدوى، سرعة التئام الجرح والحفاظ على مظهر ووظيفة المنطقة أو العضو المصاب.
وفي حين أن الخياطة الجراحية هي أكثر تقنيات إغلاق الجروح شيوعًا في الوقت الحالي، إلا أن هناك العديد من البدائل.
لاصقات عنكبوتية وأخرى من الصمغ المدرسي
تنقسم المواد اللاصقة عادةً إلى فئتين؛ فئة تتميز بقوة التصاق عالية تعتمد على تكوين روابط قوية مع الأنسجة المحيطة، لكنها في المقابل تكون صعبة الإزالة، وفئة أخرى تتميز بإمكانية إزالتها بسهولة لكنها لا تتمتع بقدرة التصاق مناسبة.
بالنظر إلى أن صفتي الالتصاق وسهولة الإزالة يبدوان متعاكستان إلى حد كبير، ويمثل ابتكار مادة تدمج بين الصفتين تحديًا كبيرًا، لكنه أيضًا يمثل تغييرًا محوريًا لتطوير جيل جديد من اللاصقات الجراحية.
وفي هذا السياق، اهتم العديد من الباحثين بتطوير مواد يمكنها أن تحل محل الخيوط الجراحية التقليدية. على سبيل المثال، صمم مهندسو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لاصقة جراحية مستوحاة من غراء العناكب؛ وهي المادة اللزجة التي تفرزها العناكب لاصطياد الحشرات.
تعتمد فكرة هذه اللاصقة على امتصاص الماء والسوائل التي تُفرز في مناطق الجروح، والتي تمنع بدورها الالتئام بشكل جيد. وهي عبارة عن شريط جاف ذو وجهين مصنوع من مزيج من البوليمر الحيوي (الجيلاتين أو الشيتوزان) وحمض البولي أكريليك، ومع امتصاص السوائل، تقوم تلك اللاصقة بتكوين روابط بين طرفي النسيج المتضرر لتساعد على التئامه بشكل أسرع.
تشير التجارب التي أجراها الفريق البحثي على الحيوانات قدرة اللاصقة على ربط الأنسجة المتضررة خلال فترة قصيرة لا تتجاوز خمس ثوان، ما يدعم إمكانية استخدامها في العمليات الجراحية كبديل للغرز التقليدية.
وفي شهر يوليو من العام الحالي، نشرت مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم دراسة أجراها فريق بحثي بجامعة بنسلفانيا في مدينة فيلادلفيا الأمريكية، كشفت عن أحد أحدث الابتكارات في مجال اللاصقات الجراحية.
لصنع هذه اللاصقة، قام الفريق البحثي بمزج حمض البوريك مع بولي فينيل الكحول؛ وهو المكون الرئيسي للصمغ المستخدم في الأنشطة الاعتيادية في المدارس. يتحد الكحول مع ذرات البورون المكونة لحمض البوريك ليكونا معًا مادة لاصقة قوية لتتحقق ميزة الالتصاق الجيد لغلق الجروح.
ولكن، عند غمر المكونين في الماء لأكثر من ثلاثين ثانية، تنتقل ذرات البورون لتتحد مع جزيئات الماء، عوضًا عن الاتحاد مع الكحول، ما يترتب عليه تفكيك المادة وفقدان قدرتها على الالتصاق، ما يضمن إمكانية إزالة اللاصقة بسهولة بعد التئام الجرح.
ضمادة أخرى نانوية طورها باحثون مصريون تساعد على التئام الجروح خلال 10 أيام على الأكثر، الضمادة محمل عليها عقار "الفينيتوين" والمستخدم لعلاج الصرع، حيث وجد الباحثون أن له قدرة عالية على تسريع التئام الجروح، عند تحميله على ضمادة مكونة من جسيمات نانوية داخل ألياف نانوية غُزلت معًا بالطاقة الكهربية.
ولا تزال الدراسات مستمرة لتطوير لاصقات وضمادات بهدف واحد؛ وهو خدمة ملايين المرضى حول العالم ووقايتهم مخاطر الجروح التي قد تودي بحياتهم إذا لم يتم التعامل معها على النحو الأمثل.