في ثلاثينيات القرن الماضي، انتشر الصيد الجائر للحيوانات في غابات أفريقيا، ومنها بالطبع القرود والشمبانزي، لكن لم يدرك الصيادون وقتها العواقب الوخيمة التي سيتسبب فيها اصطياد أحد أنواع الشمبانزي، التي تحمل النسخة الحيوانية من فيروس نقص المناعة أو ما يسمى بالـ SIV.
عندما اصطاد البشر هذا النوع من الشمبانزي الذي يسكن وسط أفريقيا، انتقل الفيروس إليهم عن طريق التلامس مع دماء هذه الحيوانات المصابة، وحينما دخل الفيروس إلى أجسامهم، طور النسخة البشرية منه "HIV" أو ما يعرف بفيروس نقص المناعة البشرية، وعلى مدى عقود طويلة، انتشر الفيروس ببطء في جميع أنحاء أفريقيا، ثم انتقل لمناطق أخرى في العالم.
مرض الإيدز وفيروس نقص المناعة
يُعد فيروس "HIV" أحد أنواع العدوى المنقولة جنسيًا، لكنه كذلك ينتشر عن طريق ملامسة الدم المصاب أو من الأم لطفلها في أثناء الحمل أو خلال عملية الولادة أو الرضاعة الطبيعية، وعند الإصابة بالفيروس فإنه يهاجم الجهاز المناعي، متسببًا في إضعاف قدرته على مكافحة العدوى والأمراض المختلفة.
مع ذلك، قد يستغرق الأمر عدة سنوات -دون أي تدخل طبي- حتى يُضعف الفيروس الجهاز المناعي لدرجة الإصابة بمتلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز - AIDS)، الذي يعد حالة مرضية مزمنة ومهددة للحياة.
تضعف الإصابة بفيروس "HIV" من المناعة، ما يجعل المصاب أكثر عرضة للإصابة بالعديد من أنواع العدوى وأنواع معينة من السرطانات، مثل:
- الالتهاب الرئوي بالمتكيسة الرئوية
- القلاع
- السل
- التهاب السحايا
- داء المقوسات
- سرطان الغدد الليمفاوية
- سرطان الأوعية الدموية
مريض برلين… أول حالة شفاء من الإيدز
منذ الإعلان عن تشخيص أول حالة إصابة بالإيدز في أوائل الثمانينيات وحتى اليوم، طورت العديد من شركات الأدوية العقاقير المضادة لفيروس نقص المناعة، ومع ذلك لا يمكن اعتبار أيًا من هذه الأدوية كعلاج فعّال لمرض الإيدز، حيث يقتصر دورها على إبطاء تطور المرض، ومنح فرصة جيدة لهؤلاء المرضى للتعايش مع حالتهم، والحد من نسب الوفيات في بعض الدول المتقدمة.
في عام 1995، أصيب "تيموثي راي براون" والمعروف باسم "مريض برلين" بمرض نقص المناعة المكتسبة في أثناء إقامته ببرلين، ما اضطره إلى أخذ أدوية مضادات الفيروسات، والتعايش مع المرض حتى عام 2007، الذي أصيب فيه بأحد أنواع سرطان الدم (acute myeloid leukaemia).
تضمنت خطة العلاج من السرطان تدمير النخاع العظمي الذي ينتج الخلايا السرطانية، وزراعة نخاع عظمي جديد من متبرع، ليكتشف الأطباء وقتها، أن نخاع المتبرع كان يحتوي على طفرة جينية نادرة، تجعله مقاومًا للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية.
أدت هذه المصادفة لاستغناء "براون" عن أدوية مضادات الفيروسات المستخدمة لعلاج الإيدز، ولمدة 13 عامًا بعد العملية، حتى وفاته في سبتمبر 2020، بعد معاناة مع مرض السرطان الذي عاوده من جديد في بداية 2020، لينتشر في الدماغ والحبل الشوكي، مؤديًا لوفاته بعد خمسة أشهر.
مع أن حالة "براون" منحت الكثيرين من المرضى الأمل في الشفاء، إلا أن اعتماد هذا النوع من العمليات كعلاج لمرض الإيدز يعد محفوفًا بالمخاطر، فهو يظل في الأساس علاجًا للسرطان، ولا يمكن تطبيقه في كل حالات المرضى، فضلًا على ذلك، فهذا النوع من العمليات مكلف جدًا.
مريض لندن … حالة الشفاء الثانية
في بدايات عام 2019، كان الإعلان عن شفاء المريض الثاني من الإيدز والمعروف بمريض لندن، لكن لم يتعرف العالم إلى هوية هذا المريض حتى قرر الإعلان عن نفسه في مارس 2020، ليلحق "آدم كاستيليو" البالغ من العمر 40 عامًا ب"تيموثي راي براون" ويجدد الأمل لدى الكثيرين.
كشفت الورقة البحثية التي ناقشت حالة مريض لندن، أن الأطباء اتبعوا نفس النهج المستخدم سابقًا مع "براون" في علاج "كاستيليو"، حيث عانى الأخير من أحد أنواع سرطان الدم، الذي استوجب العلاج بزراعة النخاع الشوكي، وهنا اتجه نظر الأطباء إلى متبرع يحمل الطفرة الجينية التي تجعل خلاياه الجذعية مقاومة للعدوى بفيروس نقص المناعة البشرية.
بعد العملية، توقف "كاستيليو" عن تعاطي أدوية مضادات الفيروسات ولم يعاود الفيروس الظهور من جديد ولمدة 30 شهرًا، ما جعل العلماء يؤمنون بأن ما حدث سابقًا مع "براون" يمكن أن يتكرر مع مرضى آخرين، حتى لو كان عددهم محدودًا.
الحالة الثالثة ودم الحبل السري
في فبراير 2022، أعلنت الباحثة "إيفون برايسون" رئيس قسم الأمراض المعدية للأطفال في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا، عن شفاء الحالة الثالثة من الإيدز، وشددت على أنها حالة خاصة مختلفة عن سابقتها في مريض برلين ومريض لندن، فهي حالة الشفاء الأولى على مستوى العالم لامرأة.
في عام 2013، شُخصت هذه المرأة - التي رفضت الإعلان عن اسمها أو عمرها لحماية خصوصيتها- بإصابتها بفيروس نقص المناعة البشرية، وكانت لا تزل في المراحل الأولى من الإصابة، فبدأت العلاج على الفور، وحققت بسرعة نتائج جيدة، حيث قللت من قدرتها على نقل العدوى للآخرين، إضافةً إلى تقليل تضاعف الفيروس داخل خلاياها.
لكن في عام 2017، أُصيبت بسرطان الدم أيضًا، ما أدى لانتكاس حالتها الصحية، وزيادة ظهور الفيروس في تحاليل الدم وخلايا الجسم.
كحل أخير للعلاج من السرطان، لجأ الأطباء إلى نهج جديد في العلاج، عن طريق مجموعة من الخلايا الجذعية البالغة المأخوذة من دم أحد أقاربها، والمتطابقة بشكل وثيق مع خلاياها، بالإضافة إلى الخلايا الجذعية المأخوذة من دم حبل سري، بعد أن تبرع بها آباء الطفل لبنك دم الحبل السري بعد ولادته مباشرة.
وقع اختيار الباحثون على هذه العينة من دم الحبل السري لاحتوائها على نفس الطفرة الجينية التي تجعل الخلايا مقاومة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية، مثلما حدث في حالتي مريض برلين ومريض لندن، مع اختلاف واضح هذه المرة في أنها مأخوذة من دم حبل سري وليس من نخاع عظمي لمتبرع.
عملت الخلايا البالغة المأخوذة من أحد أقرباء هذه السيدة كجسر تمكنت عن طريقه خلايا دم الحبل السري من التكيف سريعًا مع الجهاز المناعي للمريضة، وهو ما يعد سببًا رئيسيًا في بقائها لمدة قصيرة في المستشفى بعد إجراء العملية، حيث لم يُلاحَظ على المريضة أي رد فعل مناعي قوي، مثلما يحدث عادةً في حالات زرع النخاع.
توقفت المريضة عن تناول العقاقير المضادة للفيروسات بعد إجراء العملية بعدة أشهر، ومن وقتها ولمدة 14 شهرًا لم يُكتشف أي أثر للفيروس أو الأجسام المضادة له في دمها. الجدير بالذكر أن حالة هذه المرأة تأتي ضمن دراسة أكبر، تتابع إجمالي 25 مصابًا بفيروس HIV والسرطان في الولايات المتحدة الأمريكية.
سيخضع هؤلاء المصابون لعملية زرع خلايا جذعية من الحبل السري لعلاج السرطان، وبعدها يمكن للباحثين متابعة حالاتهم، لتقييم مدى نجاح هذا الإجراء الطبي في القضاء على فيروس نقص المناعة البشرية لديهم.
وهو إلى ذلك أسهل تكيفا مع خلايا المريض، ما يجعل بعض العلماء يعتقدون أن هذا النوع من العمليات أسهل في علاج حالات مرضى الإيدز المصابون بسرطان الدم.
يبقى العامل المشترك بين حالات الشفاء الثلاث هو خضوعهم لعلاج أحد أنواع سرطان الدم بالخلايا الجذعية، سواء المأخوذة من النخاع الشوكي أو من دم الحبل السري، وعلى الرغم من أن هذا لا يخدم الجميع، فإنه من المتوقع أن يستفيد نحو 50 شخص سنويًا من هذا الإجراء.
في النهاية، قد لا يكون هذا النهج متاحًا لملايين المرضى حول العالم، وخاصةً في الدول الفقيرة والمتوسطة، لكنه يفتح باب الأمل للمزيد من البحوث المهتمة بعلاج الإيدز عن طريق الخلايا الجذعية، التي ربما تكشف عن جديد قريبًا، لتنهي معاناة الملايين من المرضى حول العالم.
شاهد أيضاً اضطراب ما قبل الطمث الاكتئابي.