لماذا تستهلك أدمغتنا قدرًا كبيرًا من الطاقة؟

في حين يمثل الدماغ البشري جزءًا ضئيلًا من إجمالي كتلة الجسم، فإنه العضو الأكثر استهلاكًا للطاقة في جسم الإنسان؛ باستحواذه على أكثر من 20% من إجمالي طاقة الجسم. ويظل السؤال المحير: لماذا يحتاج الدماغ إلى كل هذه الطاقة؟ ولماذا يكون الدماغ أول ما يتأثر بالتغيرات الطفيفة في إمدادات الطاقة؟ تعرف إلى كل ما قد يطرق ذهنك بشأن استهلاك الدماغ البشري للطاقة في هذا المقال.

هل تتطلب مراكز معينة في الدماغ طاقة أكثر من غيرها؟

يتكون الدماغ البشري من مادتين رئيسيتين؛ المادة البيضاء والمادة الرمادية. تمثل المادة الرمادية القشرة الخارجية للدماغ، وتتضمن المخ والمخيخ وجذع المخ. تتكون المادة الرمادية من أجسام الخلايا العصبية، التي تعالج فيها المعلومات الحسية، وتُمَّكن الفرد من التحكم في حركاته ومشاعره وذاكرته.

أما المادة البيضاء، فتتكون من محاور الخلايا العصبية التي تنقل الإشارات العصبية بين مراكز الدماغ المختلفة، وبفضل مادة (المايلين) التي تغلف المحاور العصبية وتعمل على عزل الإشارات العصبية، فإنها تضمن وصول تلك الإشارات بشكل أسرع وباستهلاك أقل قدر من الطاقة، ما يعني أن المادة الرمادية تتطلب طاقة أكبر بكثير من تلك التي تتطلبها المادة بيضاء للقيام بوظيفتها في الدماغ البشري.

كما تتطلب بعض الوظائف الدماغية طاقة أكثر من غيرها، فعلى سبيل المثال، تتطلب المراكز المسؤولة عن المعالجة السمعية طاقة أكبر من تلك المسؤولة عن النظام الشمّي أو مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة؛ فالسمع يتطلب إشارات سريعة ودقيقة للغاية لتحديد الأصوات التي تنذر بالخطر لتفاديها بشكل سريع، أما الحواس البطيئة نسبيًا، مثل الشم، فلا تتطلب القدر نفسه من الطاقة.

هل يستهلك الدماغ المزيد من الطاقة عند التفكير؟

عند الشروع في تنفيذ مهمة معينة، تتطلب مركز معين من مراكز الدماغ، فإن احتياجات هذا المركز الدماغي إلى الطاقة تزداد بلا شك. فعلى سبيل المثال، إذا كنت تتحدث إلى شخص ما، فإن منطقة (بروكا) المسؤولة عن نطق الكلام، سوف تصبح أكثر نشاطًا وأكثر احتياجًا للطاقة. 

لكن على عكس ما نتوقع، فإن هذه الزيادة في الاحتياج إلى الطاقة طفيفة جدًا، بحيث لا تتعد الثمانية بالمئة على الأكثر من معدل التمثيل الغذائي للدماغ. على عكس بقية أعضاء الجسم مثل عضلات الساق التي قد يزيد استهلاكها من الطاقة من ثلاث إلى أربع مرات عند المشي مقارنة مع استهلاكها للطاقة عند الجلوس.

إذًا، فإن الدماغ البشري يحتاج إلى كمية ثابتة نسبيًا من الطاقة، سواء كنت تفعل شيئا معقدًا مثل حل مشكلة رياضية صعبة أو كنت تجلس محدقًا في السماء.

هل حقًا نستخدم 10% فقط من أدمغتنا؟

في عام 1907، نشرت دورية (ساينس) مقالة لعالم النفس "ويليام جيمس" يزعم فيها أن البشر لا يستخدمون سوى جزء صغير من مواردهم العقلية، لكنه لم يحدد النسبة المئوية لذلك الجزء. وانتشر في الأوساط العلمية اعتقاد أن البشر لا يستخدمون سوى 10% فقط من أدمغتهم، وأن سر الذكاء يكمن في زيادة تلك النسبة واستخدام الموارد العقلية الدفينة التي تمثل التسعين بالمائة الباقين.

اقرأ أيضاً:  نوبل في الطب 2021: لمن منحونا فهمًا أوسع لآلية شعورنا بالحرارة واللمس

لكن في عام 2009، نشرت دورية "فرونتيرز"  المتخصصة في علم الأعصاب دراسة توضح أن اعتقاد استخدام البشر 10% فقط من طاقة أدمغتهم مجرد أسطورة لا أساس لها من الصحة، حيث استخدمت تلك الدراسة بعض التقنيات الحديثة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لرصد النشاط الدماغي بينما يقوم الفرد بمهام مختلفة، لتجد أن معظم الخلايا العصبية بالدماغ تعمل في أغلب الأوقات، حتى عند القيام بأبسط الأعمال.

لماذا تستهلك أدمغتنا ذلك القدر من الطاقة حتى عند الراحة؟

يرجع تاريخ اكتشاف استهلاك الدماغ لكميات عالية من الطاقة، حتى عند النوم والراحة التامة، إلى عدة عقود؛ حيث درس الباحثون بعض حالات الغيبوبة وتأثير ذلك على الطاقة التي يستهلكها الدماغ، وتوصلت الدراسات أنه حتى في هذه الحالات الخاملة، فإن استهلاك الدماغ من الجلوكوز لا ينعدم مطلقًا، بل ينخفض عن المستوى الطبيعي بمقدار النصف فقط، وهو ما لا يزال استهلاكًا عاليًا بالنسبة لتلك الحالة من الخمول.

وفي الثالث من ديسمبر 2021، توصل الباحثون في كلية الطب بجامعة كورنيل إلى السبب وراء استهلاك الدماغ البشري لتلك الكميات الكبيرة من الطاقة، حتى في أوقات النوم والراحة؛ حيث أوضحوا في دراستهم التي نُشرت في دورية العلوم "Science"، أن هناك حاويات صغيرة تسمى (الحويصلات المشبكية - Synaptic Vesicles) تمثل المصدر الرئيسي لاستهلاك الطاقة في الخلايا العصبية حتى في أوقات الراحة والنوم. تستخدم الخلايا العصبية هذه الحويصلات كمخزن للناقلات العصبية لاستخدامها عند الحاجة في نقل الإشارات العصبية. 

يوضح د. تيموثي ريان، أستاذ الكيمياء الحيوية بكلية الطب بجامعة كورنيل والباحث الرئيسي في تلك الدراسة، أن هذه النتائج تساعد في تفسير التأثير البالغ لنقص الطاقة والجلوكوز على الدماغ البشري. ولكن يبقى السؤال الذي يمثل لغزًا محيرًا في أذهان الكثيرين: لماذا يستهلك الدماغ الطاقة حتى بعد امتلاء تلك الحويصلات؟

ظاهرة تسرب البروتونات

اكتشف الباحثون  أن الجدار الذي يحيط بالحويصلات المشبكية الموجودة في الوصلات العصبية لا يمنع خروج البروتونات عن طريقه، ما يتسبب في تسرب تلك البروتونات خارج الحويصلات، بما يعني أن مضخات البروتونات الموجودة في جدار الحويصلات تستمر في العمل لضخ تلك البروتونات خارج الحويصلات بغض النظر عن امتلاء أو خلو الحويصلات المشبكية من الناقلات العصبية، فتظل على حالتها من استهلاك الطاقة، سواء في فترات العمل أو الراحة. 

تحتاج عملية ضخ البروتونات إلى الطاقة، وعلى الرغم من أن تسرب البروتونات من كل حويصلة مشبكية يكون ضئيلًا، إلّا أن الاستهلاك  الإجمالي الكبير للطاقة يرجع إلى وجود مئات التريليونات من الحويصلات التي تقوم بتلك العملية في الوقت ذاته.

أخيرًا، إن التفسيرات التي طرحتها لنا الدراسات الحديثة ساعدتنا بشكل كبير في فهم الكثير عن الدماغ البشري وآلية استهلاكه للطاقة في أوقات العمل والراحة على حدِِ سواء، كما أتاحت لنا الفرص لفهم المزيد عن الأمراض المتعلقة باختلال توازن التمثيل الغذائي بالدماغ، لتفتح مدخلًا للعلماء والباحثين لإيجاد الطرق التي تساهم في ضبط ذلك الاختلال وعلاج العديد من الأمراض المتعلقة باستهلاك الدماغ للطاقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
جيمس أليسون, تاسكو هونجي, جائزة نوبل في الطب 2018, جائزة نوبل, طب, السرطان, علاج السرطان, اكتشافات علمية
طالع المزيد

العلاج المناعي للسرطان يربح جائزة نوبل في الطب لعام 2018

حاز تاسكو هونجي، جيمس أليسون على جائزة نوبل في الطب لعام 2018 عن اكتشافهما علاج للسرطان، من خلال تثبيط الآليات التي تعمل على إبقاء الجهاز المناعي تحت السيطرة.
Total
0
Share