بينما أكتب هذه الكلمات، هناك معركة حامية تدور بين الجيش الروسي والأوكراني في مدينة إنيرهودار جنوبي أوكرانيا، تحديدًا في محيط أكبر محطة نووية في أوروبا (محطة زابوروجييه (زابوريجيا) للطاقة النووية)، حيث تنتج ما يقرب من نصف كهرباء البلاد المستمدة من الطاقة النووية، والتي توقفت بالكامل منذ يومين بسبب الحرب.
على الجانب الآخر، وقبل حوالي شهر، كانت القوات الصينية تجري تدريبات مكثفة تهدف لإرعاب تايوان بعد زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي، مع توقعات غير متفائلة بالنسبة للوضع السياسي في هذه المنطقة من العالم، أو أية منطقة أخرى على حد سواء.
ويتزامن هذا الوضع المضطرب مع أثر واضح للتغيرات المناخية، والذي بات يتسبب في اضطرابات اقتصادية وسياسية لا تخطئها عين، فبعض الدول باتت على شفا الحرب بسبب الجفاف ونقص الموارد، والبعض دخل في حرب بالفعل بسبب مشكلات المناخ، وفريق ثالث لازال يتخبط لحماية حدوده من لاجئي المناخ، وهم أولئك الذين تركوا بلادهم بعدما دمر الاحترار العالمي أرضهم القابلة للزراعة، أو فقط أنهكتهم الفيضانات. أما الأسوأ من ذلك، فهو أن النشاط البحثي في هذا النطاق يقول أن القادم أسوأ!
تتفق أكثر من 99% من الدراسات العلمية المنشورة منذ عام 2012، على أن للبشر دور فيما يحدث من تغيرات مناخية، وأنه يمكن -إن قررنا الاتفاق حول آليات عملية- أن نحد من تطور المشكلة إلى مستوى مقبول، على الأقل إلى الحد الذي يثبّت تصاعد متوسطات الحرارة حول العالم بحلول نهاية القرن، لكننا لم نتفق بعد، ويبدو أن ذلك لن يحدث في أي وقت قريب بسبب هذا التوتر العالمي.
يذكرني ذلك بفيزيائي روسي يدعى نيكولاي كارداشيف، قد تبدو حكايته غير متعلقة بالحرب الروسية أو التغير المناخي، لكنهما مرتبطان إلى حد لا تتخيله.
حرب النجوم
ابتكر كارداشيف ما نعرفه الآن باسم "مقياس كارداشيف"، والذي يقول إنه يمكن أن تكون هناك ثلاثة مستويات أساسية لأي حضارة كوكبية؛ الأولى حضارات الكواكب: وهي قدرة الحضارة على استخدام الطاقة الواصلة إليها من نجمها (الشمس مثلا) بشكل فعال، والثانية الحضارات النجمية: أن تكون الحضارة قادرة على تغليف نجم كامل بسلسلة متزامنة من الأقمار الصناعية للحصول على طاقته، والثالثة حضارات المجرة: أن تكون قادرة على استغلال طاقة مجرة كاملة.
صديقنا هنا لا يبالغ في شيء، ولا يحاول إنتاج أحد أفلام "حرب النجوم"، إنه فقط يتبع المنطق البسيط في تتبع تطور حضارتنا، فإذا تأملت قليلًا لوجدت أنه قبل مائتي سنة فقط، من تاريخنا البشري الطويل على هذا الكوكب والذي يتخطى حاجز 300 ألف سنة، كانت شوارع ومنازل الكوكب كله تضاء بالنار، لأن البشرية لم تكتشف الكهرباء بعد.
تأمل مثلًا السنوات الثلاثين الفائتة، في التسعينيات لم يكن الإنترنت منتشرًا بهذا الشكل ولا الهواتف الذكية كانت موجودة من الأساس، كانت الحواسيب بدائية مقارنة باليوم، يعني ذلك أن حضارتنا تتطور بشكل لاخطّي، يعني أن التقدم يبدأ بطيئًا في البداية لكنه يتسارع مع الزمن، فنتمكن على سبيل المثال من مضاعفة قدرة الشرائح الحاسوبية كل ثمانية عشر شهرًا.
أين الآخرون؟
لكن إن كان الأمر كذلك، فإن الفيزيائي الإيطالي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل عام 1938 إنريكو فيرمي، يسأل: فأين ذهبت الحضارات الأخرى المتقدمة؟ ولما لم تتواصل معنا؟
عُمر كوكبنا يساوي حوالي 4.5 مليار سنة، نعرف أنه بالتأكيد هناك مليارات الكواكب التي نشأت قبله، إذا نشأت الحياة على مجموعة منها وتطورت وازدهرت فوصلت إلى مستوى العقل، وهذا ممكن بحسب القواعد البسيطة لنظرية الاحتمالات وعلوم البيولوجيا، فإن ذلك يعني أن هناك احتمالية لتواجد حضارات متقدمة عنا بفارق ملايين أو ربما مليارات السنين.
بحسب مقياس كارداشيف، فنحن حضارة في المستوى الأول، ربما لا نتمكن من سبر أغوار السماء كما ستفعل حضارة أخرى بلغت من التقدم عتيًا، فباتت تنهل من موارد النجوم والمجرات، وصنعت باستخدام الذكاء الصناعي أدوات تمكنها من سبر أغوار مجرات كاملة، وبالتالي فنحن الآن في مرمى تلسكوباتهم المتقدمة.
هنا يسأل فيرمي عن السبب في أن هؤلاء لم يتواصلوا معنا، وهنا تحديدًا أتوقف قليلاً. هناك العديد من الأسباب التي تجعل من الممكن أن نكون وحيدين في هذا الكون، لكن أحدها يدفع للتأمل، وهو التصور القائل أن الحضارات تتقدم تكنولوجيًا حتى نقطة ما، فيها ينهار كل شيء، نقطة حرجة يصيبنا خلالها الهوس في أثناء امتلاكنا تكنولوجيا قاتلة، وتكون الخطوة التالية هي -ببساطة- استخدام تلك التكنولوجيا لنتحارب معًا بدلًا من إيجاد حلول لمشكلاتنا الجذرية، فلا نتقدم أصلًا في مقياس كارداشيف.
ضد الحضارة
في كتابهما "عقل جديد لعالم جديد"، يقول كل من بول إيرليش وروبرت أورنشتاين، أننا -نحن البشر- قد تطورنا حضاريًا وبيولوجيًا أسرع من أي كائن آخر، ولقد غيرنا في هذا الكوكب بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخه الطويل، لكن هناك مشكلة، وهي أن عقولنا لم تواكب هذا التطور.
يضرب المؤلفان مثال بسيط، مجموعة من الإرهابيين يقتلون بضعة أمريكيين في مكان قصي، يتسبب ذلك في تسونامي من الرعب يجتاح كل الولايات المتحدة الأمريكية، ملايين يوقفون خططهم للسفر، وآخرين يتابعون فوكس نيوز باهتمام بالغ، لكن الأمريكيين، بحسب المؤلفين، يقتلون بعضهم بالرصاص كل يوم بشكل يفوق كل من اغتاله الإرهابيون حتى تاريخ كتابة هذا الكلام، ولا أحد يهتم.
بما نهتم حقًا وما الذي نعتمد عليه لنتخذ قراراتنا؟ ولم لا تثير المشكلات الحقيقية اهتمامنا كما تفعل أحداثًا طارئة أو فقط مثيرة للانتباه؟ ولم لا نمتلك ميزانًا معتدلًا لتقييم ما يحدث حولنا؟ يقول المؤلفان أن الذهن البشري يعجز عن تفهم عالمنا الجديد، لازال بدائيًا كفاية لينتقي من الوقائع خلاصة صغيرة ليس إلا، ويهمل ما عداها.
دانيال كانيمان، عالم النفس الحاصل على نوبل في الاقتصاد، يهتم بنفس الفكرة، فهو يقول أننا نهتم بالقصص بغض النظر عن الحقائق والبيانات.
في تجربة أثارت انتباهي كان على فريقين من الناس إعطاء حكم في قضية ما، الفريق الأول تعرض لعرض تقديمي قدمه أحد طرفي القضية بشكل شخصي، وبيانات مفصلة عن موقف الطرف الثاني من القضية، والعكس حصل مع الفريق الثاني، ثم جاءت النتائج لتقول أنه كان هناك ميل لتصديق الشخص الذي عرض قضيته بنفسه في مقابل البيانات المفصلة، لأننا ببساطة نحب أن تصاغ البيانات في صورة قصص مؤثرة.
رجل غاضب مع سلاح نووي
لكن القصص بطبيعتها بسيطة، مفتقدة للبيانات الدقيقة، ولذلك ظهر في عالم الاقتصاد اصطلاح جديد يسمى "العقلانية المقيدة"، ويعني أنه في أثناء اتخاذ قرار ما، فإننا -نحن البشر- عادة ما نكون أقل عقلانية، تؤثر فينا أشياء لا ندركها تتعلق بالسياق، وتؤثر فينا حالتنا النفسية.
في تلك النقطة تحديدًا يظهر تحدِينا الأكبر، على مدى آلاف السنوات ظننا أن مشكلتنا هي السيطرة على الطبيعة عبر قوانين الفيزياء، وسبر أغوار الكون الواسع، والوصول لحالة مناسبة من الرفاه الاقتصادي، ونهل المعارف بكل صورها، لكننا أغفلنا ذواتنا في هذه الرحلة، تصورنا -كما يقول جاك إيلول في كتابه "خدعة التكنولوجيا"- أن السكّين هو مجرد أداة محايدة، يمكن أن نستخدمها لتقطيع السَلطة أو ذبح فتاة في الشارع.
لكن الأمر ببساطة، ليس كذلك، حينما نمسك بالسكين، أو الهاتف الذكي أو القنبلة النووية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو دبابة روسية من طراز "تي- 90 م"، التي تستخدم نظام الدرع التفاعلي المدمج والذي يوفر الحماية ضد الرؤوس الحربية الترادفية مع قدرة رهيبة على الاشتباك بنمط الصياد-القاتل، فإننا نصبح أشخاصًا مختلفين، ننظر في المرآة فلا نرى من اعتدنا أن نراه.
لسبب ما، في هذه الحالة، خاصة إذا اقترنت ببعض من الغضب أو اليأس أو الحزن، ربما ننسى إنسانيتنا، وربما بالفعل نتجاهل ما يؤثر حقًا على بقائنا نفسه على هذا الكوكب، ونندمج في حرب غريبة نحاول خلالها إثبات أننا الأقوى أو الأفضل أو الأجمل، وهذا سبب وجيه جدًا لإنهاء حضارة!