تخيل مصابًا بالملاريا يسير وحده في غابة بأعالي جبال الأنديز، يعاني العطش الشديد نتيجة الحمى، فيتجه إلى بركة صغيرة ليروي عطشه بمائها المرير، ليكتشف بعد وقت قصير أنه شُفي من الحمى ومن الملاريا أيضًا، بفضل الصدفة التي قادته لهذا المكان تحديدًا، حيث تنمو أشجار الكينا، التي يحتوي لحاءها على مادة الكينين، التي تستخدم حتى الآن في علاج بعض حالات الملاريا.
لم تكن هذه الصدفة حالة فريدة من نوعها في تاريخ الطب، بل تكررت على مدار سنوات طوال، لعبت فيها الصدفة لصالح البشرية، وألهمت العديد من الأطباء والباحثين للوصول إلى أدوية وأجهزة وتحاليل طبية مهمة ومؤثرة في تاريخ الطب. في هذا المقال نتعرف إلى بعض هذه الصدف.
اكتشافات طبية مهمة في تاريخ الطب
- أشعة X
نعرف جميعًا الأشعة السينية (أشعة X) كواحدة من أهم الأدوات المستخدمة في التشخيصات الطبية، ولكن ما لا يعرفه البعض هو أنها اكتُشفت بالصدفة على يد الفيزيائي الألماني "فيلهلم كونراد رينتجن" الذي لم يكن له أي علاقة بالتجارب الطبية. ذلك أثناء دراسته لأشعة الكاثود، وهي تيار فسفوري من الإلكترونات، التي تستخدم اليوم في كل الأجهزة الكهربائية تقريبًا، من أجهزة التلفاز إلى المصابيح الفلورية (الفلوروسنت).
قبل "رينتجن" اكتشف أحد الباحثين أن أشعة الكاثود يمكن أن تخترق قطع معدنية رقيقة، بينما اكتشف آخر أن هذه الأشعة يمكن أن تضئ شاشة فلورية موضوعة على بعد بوصة أو اثنتين من نافذة رقيقة من الألومنيوم في أنبوب زجاجي.
أراد "رينتجن" اختبار إمكانية رؤيته لأشعة الكاثود تتسرب من أنبوب زجاجي مغطى بالكامل بورق مقوى أسود اللون، وفي أثناء إجراء هذه التجربة، لاحظ "رينتجن" أن وهجًا ظهر في مختبره المظلم على بعد عدة أقدام من الأنبوب الزجاجي المغطى بالورق المقوى.
في البداية، اعتقد أن هناك تمزقًا في غلاف الورق يسمح للضوء بالتسرب من موصل الجهد العالي الملفوف داخل أنبوب الكاثود، لكنه سرعان ما أدرك أن ما حدث مختلفًا تمامًا، حيث مرت الأشعة الضوئية مباشرة عبر الورق السميك لتظهر على شاشة فلورية على بعد ما يقرب من المتر.
اكتشف "رينتجن" أن هذه الأشعة الجديدة، لها العديد من الخصائص المختلفة عن أشعة الكاثود التي كان يدرسها في الأساس، حيث يمكنها اختراق المواد الصلبة وتسجيل صورة هيكل عظمي بشري على صورة فوتوغرافية سلبية (نيجاتيف). في عام 1901، وفي العام الأول لتنظيم جوائز نوبل، حصل "رينتجن" على الجائزة عن اكتشافه للأشعة السينية، التي لم يكن أبدًا يبحث عنها، ولكنها سرعان ما أصبحت أداة طبية مهمة للغاية يستخدمها الأطباء في جميع أنحاء العالم.
- البنسلين
"أحيانًا ما يجد المرء ما لا يبحث عنه" هذا ما وصف به الطبيب "ألكسندر فليمنج" اكتشافه المذهل للبنسلين عام 1928. تعد قصة اكتشاف فطر البنسليوم من أشهر قصص الاكتشافات الطبية، ليس فقط لأنه اكتشف بالصدفة، ولكن أيضًا لأن البنسلين كان ولا يزال أحد أهم الأدوية في حياتنا، كما أدى اكتشافه إلى زيادة البحث في مجال اكتشاف المضادات الحيوية المهمة الفارقة في حياة البشر.
في أثناء البحث الذي أجراه "فليمنج" لدراسة فيروس الإنفلونزا، لاحظ أن العفن قد لوث أحد أطباق بتري التي يحتفظ فيها بمزرعة بكتيرية، لاحظ "فليمنج" أن المنطقة المحيطة بالعفن نظيفة تمامًا، ما يعني ان العفن كان قادرًا على قتل البكتريا العنقودية الموجودة في الطبق، ما دفعه لأخذ عينة من هذا العفن ودراسته عن قرب، بدلًا من التخلص من الطبق، كما كان الحال مع الكثير من العلماء الذين تعرضوا لمواقف مشابهة، تلوثت فيها عيناتهم بمادة ما.
استغرق "فليمنج" بعض الوقت لعزل العفن ولكنه استطاع تصنيفه في النهاية، على أنه ينتمي إلى جنس البنسليوم، وبعد عدة اختبارات، أدرك "فليمنج" أنه اكتشف مادة مضاد حيوي غير سامة، قادرة على قتل العديد من أنواع البكتيريا، التي تسبب التهابات تتراوح بين الطفيفة والشديدة سواء للإنسان أو الحيوانات الأخرى، وكنتيجة لعمله الذي أنقذ أرواحًا تعد ولا تحصى، حصل "فليمنج" على جائزة نوبل عام 1945.
- الأنسولين
في عام 1889، أجرى الطبيبان الألمانيان "جوزيف فون ميرينج" و"أوسكار مينكوفسكي" جراحة لإزالة البنكرياس من كلب سليم، بهدف دراسة دور البنكرياس في عملية الهضم. بعد عدة أيام من الجراحة، لاحظ الطبيبان تجمع سرب من الذباب حول بول الكلب، ما دفعهما لفحص البول ومعرفة سبب تغذي الذباب عليه، ليكتشفا أن بول الكلب يحتوي على السكر، ما يعني إصابته بمرض السكري.
نظرًا لعلم الطبيبان بأن الكلب كان سليمًأ ويتمتع بصحة جيدة قبل إجراء الجراحة، فقد أدركا أنهما ودون قصد، قد أصابوا الكلب بمرض السكري، عندما أزالوا البنكرياس، وعليه انكشفت العلاقة التي نعرفها الآن بين البنكرياس ومرض السكري.
بإجراء المزيد من الاختبارات، خلص الطبيبان إلى أن البنكرياس السليم لابد وأن يفرز مادة تتحكم في عملية التمثيل الغذائي للسكر في الجسم، ما دفع الكثير من العلماء لمحاولة عزل ومعرفة هذه المادة التي يطلقها البنكرياس، ولكن ذهبت هذه المحاولات عبثًا حتى تمكن كلا من الطبيب الكندي "فريدريك بانتينج" والبروفيسور "جون جي آر ماكليود" من إثبات أن هذه المادة هي الأنسولين، بعد أن استخدماه مع مرضى السكري للتحكم في مستويات السكر في الدم لديهم، وليحصلوا بذلك على جائزة نوبل في عام 1923.
- الفياجرا
داخل مركز أبحاث شركة فايزر، وفي عام 1989، عمل الكيميائيون على تطوير دواء جديد لعلاج ارتفاع ضغط الدم والذبحة الصدرية، وبالفعل توصل الباحثون إلى تركيبة دوائية جديدة، وبدأوا في إجراء التجارب السريرية على مجموعة من الرجال، لكن ولسوء الحظ، لم يُحدث العقار الجديد التأثير المطلوب منه، حتى بعد تكرار التجارب السريرية عدة مرات.
ومع ذلك، أبلغ الرجال الذين خضعوا لهذه التجربة عن أثر جانبي غير متوقع، حيث مروا بتجربة انتصاب عشوائي، ليكتشف الباحثون أن عقارهم الجديد يوسع الأوعية الدموية في القضيب، متسببًا في الانتصاب، فيختبروا تأثيره على المرضى المصابين بضعف الانتصاب لمدة 3 سنوات، لتُظهر جميع النتائج أن للفياجرا تأثيرًا واضحًا فيما يخص ضعف الانتصاب، وتصبح أشهر الأدوية وأكثرها مبيعا في فئتها وعلى مدار ما يزيد عن ربع قرن.
- منظم ضربات القلب
في أثناء عمل المهندس والمخترع الأمريكي "ويلسون جريتباتش" على تصميم جهاز لمراقبة وتسجيل دقات القلب، أخطأ -لحسن الحظ- وأوصل المقاوم الخطأ في الجهاز، وسرعان ما أدرك أن الجهاز الجديد يصدر نبضًا إيقاعيًا مشابه تمامًا لضربات القلب، بدلًا من تسجيلها، ما دفعه إلى تطوير هذا الجهاز على مدار عامين، ليحصل تصميمه لمنظم ضربات القلب على براء الاختراع عام 1960.
- لقاح الجدري
في عام 1796، لاحظ العالم والجراح "إدوارد جينر" أن الأشخاص الذين أصيبوا بجدري البقر - مرض غير ضار ينتقل بسهولة عن طريق ملامسة الأبقار- لم يصابوا بالجدري إطلاقًا وهو في هذا الوقت وباء قاتل.
دفعت هذه الملاحظة ب"جينر" إلى أخذ عينات من قرح جدري البقر الموجودة على يدي إحدى المصابات بالمرض، وتلقيح فتى صغير يبلغ من العمر 8 سنوات بها (يُعد هذا جريمة الآن، لكنه في القرن الثامن عشر لم يكن كذلك).
تابع "جينر" حالة الفتى ليجد أنه أصيب بحمى طفيفة وبعض القرح، لكنه بقى في حالة جيدة معظم الوقت، بعد عدة أشهر حقن "جينر" الفتى بحقنة أخرى تحتوي على الجدري، ولكن الفتى لم يصب به، ومن هنا عرف العالم لقاح الجدري، وظلت التقنية التي اتبعها "جينر" متبعة وفعّالة في الكثير من أنحاء العالم.
- مسحة عنق الرحم
أدت ملاحظة الدكتور "جورج نيكولاس بابانيكولا" في أثناء إجراء دراسة جينية للخلايا السرطانية على شريحة تحتوي على عينة من رحم سيدة، إلى الاستخدام الروتيني لما يسمى بـ"مسحة عنق الرحم" وهو اختبار بسيط أنقذ ملايين السيدات حول العالم من ويلات سرطان الرحم.
في عام 1923، أجرى "بابانيكولا" دراسة على السائل المهبلي عند النساء، بهدف مراقبة التغيرات الخلوية التي تحدث على مدار الدورة الشهرية. استطاع "بابانيكولا" رصد هذه التغيرات بالفعل في إناث الخنازير، ما دفعه للرغبة في إثبات هذه الظاهرة في إناث البشر، وبالصدفة كانت إحدى السيدات الاتي خضعن لهذا الاختبار، تعاني سرطان الرحم.
عند فحص الشريحة المحتوية على السائل المهبلي للمريضة، اندهش الطبيب لاكتشافه أن الخلايا السرطانية غير الطبيعية يمكن رؤيتها بوضوح تحت المجهر، سرعان ما أدرك "بابانيكولا" أن الأطباء يمكنهم إجراء اختبار بسيط للغاية لجمع عينات من السائل المهبلي واختبارها معمليًا للكشف عن العلامات المبكرة لسرطانات الرحم.
في النهاية، قد يبدو الأمر للوهلة الأولى أنه محض صدفة قادت بعض العلماء والباحثين لاكتشافات مهمة، بل وقادت البعض منهم للحصول على جائزة نوبل، ومع ذلك، فلا يجب أن نغفل دور هؤلاء العلماء في ملاحظة وتتبع هذه الصدف، فلو لم يكن الاجتهاد حاضرًا من البداية، لما استطاعوا إدراك هذه الصدف مطلقًا.