في واحة الفيوم وقبل ملايين السنين، عاشت مجموعات من الزواحف المصرية القديمة، كان بعضها بمنزلة أسلاف لزواحف تعيش بيننا اليوم، بينما انقرض البعض الآخر ولم يعد له أثرًا في تاريخنا المعاصر. اليوم نشرت مجلة علم الحفريات الفقارية "Journal of Vertebrate Paleontology" بحثًا جديدًا استغرق نحو 4 سنوات حول اكتشاف عدد من هذه الحفريات، يرفع النقاب عن تاريخ هجرتها من آسيا إلى أفريقيا.
أولًا - سحالي دودية عديمة الأرجل
كان العصر الإيوسيني فترة رخاء ازدهرت بها الزواحف واخذت فرصتها للزيادة في الحجم والعدد والانتشار في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك لم يُعرف الكثير عن تطورها المبكر في قارة إفريقيا، نظرًا لندرة هذا النوع من الأحافير بها، حتى في منخفض الفيوم - المعروف كأحد أهم مواقع الأحافير الفقارية من عصر الإيوسين في إفريقيا- لم يُعثر إلا على عدد قليل من السحالي والثعابين به. إلا أن البحث الجديد نجح بتسجيل نوع جديد من السحالي الدودية عاش بواحة الفيوم منذ 37 مليون سنة.
هذا النوع من السحالي عديمة الأرجل التي عثر عليها الفريق بصحراء الفيوم، لم تُسجل من قبل في مصر، لا على مستوى الأحافير ولا على مستوى الزواحف المعاصرة.
مروة الحارس، قائدة فريق البحث ومعيدة بقسم علم الحيوان شعبة التشريح المُقارن بجامعة الأسكندرية
يُسمى هذا النوع المكتشف من السحالي بالسحالي الدودية نظرًا لحركتها الأشبه بحركة الدودة نتيجة لعدم امتلاكها أرجل، كما -ولأنها كانت تعيش أغلب الوقت في الظلام تحت سطح الأرض- فتميزت بعيون بدائية عمياء.
من المثير للاهتمام معرفة أن كل هذه المعلومات وأكثر، قد توصل إليها الفريق بدراسة حفرية لفقرة عظمية واحدة، نظرًا لأن هذا النوع من السحالي عديم الأرجل، يتمتع بوجود فقرات عظمية مميزة من حيث الشكل، فتكون ذات قاعدة مسطحة، وتشابك عصبي نصف دائري مع غياب الشوكة العصبية، ما يسهل على الباحثين مهمة التعرف عليها.
أما عن الجزء الصعب في هذا الاكتشاف، فكان في العثور على هذه العينة الحفرية، فالفقرات العظمية للسحالي عديمة الأرجل، تُعد صغيرة جدًا، ما يحتاج إلى عين ثاقبة لملاحظتها بين الصخور واكتشافها، فلا يتعدى طول معظم أنواع السحالي الدودية التي تعيش بيننا الآن الـ15 سم.
ثانيًا - أسلاف الكوبرا المصرية
كشف البحث في جزئه الثاني عن أحافير لثعابين عاشت منذ 37 مليون سنة، تُعد الدليل الأقدم على وجود أسلاف للكوبرا المصرية المعاصرة، إذ عُثر على 7 فقرات عظمية، تعود إحداها لمنطقة الجذع والبقية لمنطقة الذيل.
تشابهت تلك العينات مع عينات أخرى لثعابين عاشت منذ 52 مليون عام مضى، كانت قد اكتُشفت في الهند، وبذلك فإن البحث يسجل طريق هجرة هذه الثعابين بين قارتي آسيا وأفريقيا، وبتتبع هذا الطريق استوقف الباحثون أن موقعًا بـ "ناميبيا" سبق أن سجل وجود ثعابين من نفس المجموعة بعمر 50 مليون سنة. وبالرجوع لعينات موقع ناميبيا فوجئوا بأن صفاتها التشريحية أكثر تطورًا من حفريات الثعابين المُكتشفة بواحة الفيوم، وبالتالي لا تناسب العمر الذي تم تأريخها إليه، وينبغي إعادة النظر بأمرها وتأريخها لـ23 مليون سنة.
الانتقال بين آسيا وأفريقيا
لعل أهم ما يميز هذا الكشف أيضًا، تقديمه برهان إضافي يدعم نظرية الانتقال البري لبعض أسلاف الحيوانات المعاصرة من قارة آسيا أرض المنبع لقارة إفريقيا، والانتقال البري بين قارتين يلزم لتحقيقه وجود جسر بري في زمن شَكَل فيه البحر الأبيض المتوسط حاجزًا بين قارتي آسيا وأفريقيا، وإلا فكيف لكائنات لا تستطيع الطيران ولا السباحة الانتقال بين قارتين وعبور المياه إذن؟
سبق أن تم برهنة هذه النظرية من خلال حفريات الثدييات، لكنها المرة الأولى التي يتوصل العلماء فيها إلى دليل من الزواحف، ذلك أنها لا تنتمي لقارة أفريقيا في الأصل، ولكنها نزحت إليها من قارة آسيا، ما يؤكد وجود جسر بري عبرته هذه الزواحف عبر آلاف السنين بالانتقال من جزيرة لأخرى أو لنقل بين الجزر المتفرقة في أزمنة مختلفة.
على الأخص تلك التي تتكون وتظهر عند انخفاض منسوب المياه في المحيطات، من ثم تهاجر إليها الحيوانات البرية، وتنتقل خلالها عبر آلاف السنين، إلى أن تصل إلى مقرها في حواف القارة (قارة أفريقيا مثلًا) ثم تبدأ في الاتنشار والتنوع والتكاثر وهكذا.
"لا يُعد هذا التفسير غريبًا على العلم، فهناك أدلة سابقة لانتقال بعض الكائنات البرية مثل القردة وبعض الثدييات في هذا الوقت بين قارتي آسيا وأفريقيا، لكن المميز هنا هو أنه الدليل الأول على انتقال الثعابين والسحالي (الزواحف عمومًا) بنفس الطريقة."
هشام سلّام، أحد المشرفين على الدراسة، ورئيس مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية
على الجانب الآخر يعطينا البحث نموذجًا عما يمكن تحقيقه إذا ما التقى الشغف بالعلم. ذلك أنه أُجري بقيادة مروة الحارس -الباحثة الرئيسية وأحد أعضاء مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية- المعروفة بولعها الشديد بالزواحف والثعابين، التي تربيها في منزلها وتلتقط معها الصور وتدافع عنها بكل الأشكال، إلى الحد الذي وصفت به نفسها "كملكة للثعابين"، لتقودها الثعابين اليوم إلى هذا الاكتشاف.