استمرت الهيمنة التاريخية للكيمياء الحيوية وتطبيقاتها على جوائز نوبل للكيمياء هذا العام. حيث تم منح الجائزة لثلاثة رواد في المجال تمكنوا من أسر آليات التطور (الطفرات الجينية- الانتقاء) في أنبوية اختبار، أي تطوير تقنية جديدة تقوم بإنتاج بروتينات متعددة، تعد بإحداث ثورة في الصناعات الكيميائية والدوائية، اعتمادًا على نظرية التطور.
ذهبت نصف الجائزة الى «فرانسيس أرنولد» -خامس امرأة تحصل على نوبل الكيمياء والثالثة خارج عائله كوري – لدورها في تحسين التقنية الجديدة التي عرفت بـ«التطور الموجه - Directed evolution» في أواخر القرن الماضي، بينما تقاسم كل من «جورج سميث» و«جريجوري وينتر» النصف الآخر للجائزة عن دورهم في استخدام فيروسات الفاج-فيروسات تصيب البكتيريا- ضمن تقنية جديدة، في سبيل تخليق أجسام مضادة، قد تجدي نفعًا في علاج أمراض مستعصية.
الإنسان يوجه التطور
https://www.facebook.com/nobelprize/photos/a.164901829102/10155908641904103/?type=3&theater
منذ بدء الحياة على الأرض ساهمت الطفرات الجينية في إمداد الكائنات الحية ببروتينات جديدة قادرة على تعزيز فرصها في مواجهة تحديات الطبيعة.
الانتقاء الطبيعي لتلك الطفرات خلال ملايين السنين شكل التنوع الحيوي الذي تعرفه الأرض اليوم، وبدون قصد وجه الإنسان تلك الطفرات-التطور- لخدمته، قبل ألآف السنين، فمن خلال انتقائه لصفات معينة في المحاصيل التي استرزعها أو الحيوانات التي استأنسها، طور حبوب الذرة الغنية بالنشا من أسلافها العشبية، وحول الذئب الشرس إلى أقرب أصدقائه الكلب.
بالأبحاث التي نالت نوبل الكيمياء اليوم، أصبح من الممكن تقصير المدة لأيام معدودة، وإقصارها على جزيئات صغيرة توجد في كل خلايا جسمنا، تلك هي البروتينات. والبروتينات تقوم تقريبًا، بمعظم الوظائف الحيوية داخل الكائنات الحية، فمنها الأنزيمات التي تحفز كل العمليات الكيميائية كإنتاج الطاقة من وجبة غدائك، و منها الأجسام المضادة التي تفرزها خلاياك المناعية كأسلحة لقتل العوامل الممرضة.
تقوم تقنية الجزيئية لتوجيه التطور، على أساس إحداث طفرات متعددة في الجينات المسؤولة عن تلك الإنزيمات أو الأجسام المضادة، وثم انتقاء الأفضل منها لأداء وظيفة معينة، كتحفيز تفاعل كيميائي أو علاج مرض مستعصي، أو تكسير الدهون في منظفات الملابس.
تغيير الكيمياء عبر البيولوجي
كان من الواضح أن طريقة جديدة لتخليق المواد والكيماويات التي نحتاجها في حياتنا اليومية، من الممكن تطويرها عن طريق إعادة كتابة شفره الحياة، هكذا تقول فرانسيس أرلوند، التي تركت مجال الميكانيكا وهندسة الطيران لتتخص في الكيمياء الحيوية، بهدف إنتاج تكنولوجيا حيوية جديدة.
في ورقتها البحثية المنشورة عام 1993، استطاعت فرانسيس تجريبيًا أن تستخدم التطور الموجه، لمنح أنزيم يعرف بـ «سابتليسين - subtilisin»، القدرة على أداء وظيفته في وسط عضوي، وهو أنزيم يقوم عمله على تكسير البروتينات بشكل طبيعي في أوساط قطبية فقط، مثل الماء.
للقيام بذلك، قامت فرانسيس بتخليق آلاف الطفرات فى الشفرة الخاصة بالجين المسؤول عن إنتاج بروتين السابتليسين. بعد ذلك قامت بإدخالها في خلايا بكتيرية ، التي بدورها أنتجت آلاف النسخ المختلفة من الانزيم، ومن خلال تقديم بروتين الكاسين-أحد بروتينات اللبن- كطعم أو خاصية انتقاء للنسخة الأكثر فعالية، تمكنت فرانسيس من الوصول إلى أنزيمات قادرة على تكسير الكاسين في وسط شبه عضوي.
وبإعادة العملية من جديد عدة مرات، حصلت فرانسيس على نسخة معدلة من الأنزيم لها القدرة على تكسير الكاسيين في وجود المذيب العضوي بفاعلية 256 مرة أفضل من الانزيم الأصلي.
كانت تلك التجربه بمثابة الخطوة الأولى في الثورة التي شهدها مجال تخليق الأنزيمات، باستخدام تقنية التطور الموجه.
معرض الفاج والبحث عن جين غير معروف لبروتين معروف
https://www.facebook.com/nobelprize/photos/a.164901829102/10155908869504103/?type=3&theater
الفيروسات هي كائنات-قد يختلف عى وصفها بالكائنات- تقع الخط الفاصل بين الحياة واللاحياة، فهي ميتة طالما لم تجد عائلًا من الكائنات الحية، بحيث تتكاثر على حساب مكيناته الخلوية، بعض تلك الفيروسات الضئيلة تتعاش على خلايا البكتيريا، وتعرف بـ «الفاج».
تتكون فيروسات الفاج من مادة وراثية وغلاف بروتيني فقط، بهدف التكاثر، تحقن مادتها الوراثية داخل الخلية البكتيرية-التي تكبرها بآلاف المرات-، ومن ثم تتكاثر على حسابها.
في فتره الثمانينات كانت لدى جورج سميث عدد مهول من الجينات الوراثية التي لا نعرف أي البروتينات تنتج! لحل هذه المعضلة,، تصور سميث أنه لو أدخلنا ذلك الجين الغير معروف في المادة الوراثية لفيروس الفاج، فسيظهر البروتين الذي ينتج عن هذا الجين على سطح الفاج، ومن ثم يسهل اصطياده وتحليل المادة الوراثية بداخله، عرفت تلك التقنية لاحقا بتقنيه «معرض الفاج - Phage display».
وهنا يأتي دور الفائز الثالت، حيث قام "جريج وينتر" ،باستحداث آلاف الطفرات في المادة الوراثية التي تنتج بروتينات للأجسام المضادة-التي ينتجها الجهاز المناعي-و من ثم قام بإدخالها في فيروسات الفاج، ثم شرع فى عمليه اصطياد عكسي (انتقاء) للفاج الذي يحتوى على الجسم المضاد الذى يرتبط بالجزيء المراد استهدافه، "جزيئات على سطح الخلايا سرطانية على سبيل المثال" .
وعلى غرار فرانسيس , قام بدورات من الطفرات /الانتقاء لتحسين كفاءه ارتباط الجسم المضاد بالجزيء الهدف. في عام 1994 استخدم وينتر تلك التقنية لإنتاج اجسام مضادة قادره على استهداف خلايا السرطان بدرجه عالية من الدقة. [3]
تطبيقات لانهائية
اعتمادًا على تلك التقنيات، تقوم الآن عدة معامل حول العالم بتطوير أنزيمات تستخدم لإنتاج الوقود الحيوي، تجنب النواتج المضرة للبيئة من التفاعلات الكيميائية، وكذلك تخليق العديد من المواد الكيمائية والصيدلية الأخرى.
وباستخدام تقنية الفاج أسس جريج وينتير وزملائه أول شركه أدوية تعتمد على الأجسام المضادة، والتي أنتجت علاجًا يستهدف البروتينات المسؤولة عن الالتهابات في أمراض المناعة الذاتية، وقد حظي بموافقة هيئة الدواء والغذاء الأمريكية - FDA.
شجع هذا النجاح كذلك، الصناعة الدوائية لتطوير أجسام مضادة أخرى، حققت نجاحًا تاريخيًا في علاج بعض أنواع السرطان، كما يتم حاليًا تجريبها إكلينيكيا لعلاج مرض الزهايمر. [2،1]
تأتي نوبل الكيمياء هذا العام، لتظهر أهمية التداخل بين العلوم المختلفة في عصرنا الحالي، وكيف يمكن لنظرية قديمة أن تساعد في تطور العلم الحديث، لتمنحنا تطبيقات لانهائية.
شكرا ليك علي المقال المتميز والشرح المبسط المشوق