في عام 1826، استقبلت جامعة وارسو ببولندا مومياء وتابوت حجري يعود للقرن الأول قبل الميلاد، واحتفظت بها الجامعة في المتحف الوطني بوارسو منذ عام 1917، كقطعة أثرية تعود للمصريين القدماء، دون أن تدرك الجامعة أو المتحف التاريخ المثير لهذه المومياء أو المكانة التي ستحتلها بعد ما يقارب مئتي عامٍ من التبرع بها.
قصة مومياء السيدة الغامضة
يعتقد الباحثون أن وضع المومياء في تابوت خاطئ، جاء بهدف جعل القطعة الأثرية تبدو وكأنها أكثر قيمة.
في القرن التاسع عشر، ووقت التبرع بالمومياء، لم تكن المومياوات المصرية تعامل بالشكل الأمثل، فقد تعرضت العديد من المقابر الأثرية للنهب وعمليات التنقيب غير القانونية، فانتشرت ظاهرة وضع مومياء في تابوت حجري لا يخصها، لتصل إلى نحو 10% من المومياوات من بينها مومياء السيدة الغامضة، التي وبالرغم من ادعاء المتبرع بأنها تنتسب للمقابر الملكية في طيبة، وهي أحد أشهر مواقع دفن الفراعنة القدماء، لكن الدراسة تشير إلى أن الكثير من الآثار سبق وأن نُسبت الآثار بشكل مضلل إلى مواقع أثرية مشهورة، بهدف رفع قيمة القطعة الأثرية فقط، وبهذا لم يستطع العلماء تحديد هوية المومياء الموجودة في تابوت الكاهن، ولكن هذا لم يؤثر إطلاقًا في اعتقادهم بأنها كانت ذات مكانة عالية في المجتمع.
بفحص المومياء، أُكتشف أنها لسيدة ماتت منذ أكثر من ألفي عام، تحديدًا في القرن الأول قبل الميلاد، حيث كانت بين العشرين والثلاثين من عمرها، وأشاروا إلى أنها لشخصية ذات مكانة عالية في المجتمع، لأن التحنيط في مصر القديمة لم يكن متاحًا للجميع -كما نظن-، كما كشف الباحثون عن تلف بعض أجزاء الكفن المحيط بعنقها، ما قد يؤكد تعرضها للنهب من قبل لصوص الآثار والتمائم في ذلك الوقت.
وفي "مشروع وارسو للمومياوات - Warsaw Mummy Project" أطلقوا على المومياء المُكتشفة لقب "السيدة الغامضة للمتحف الوطني في وارسو" تكريمًا للمتحف الوطني، ونظرًا لأنهم لا يعرفون على وجه التحديد من كانت هذه المرأة وأين اكتشف جسدها بالظبط.
الكشف عن أول مومياء حامل في العالم
في أبريل 2021، نشر الباحثون دراستهم في "Journal of Archaeological Science" واصفين اكتشافهم بأنه الحالة الوحيدة المعروفة في العالم لمومياء حامل محنطة، ما يفتح مجال البحث على مصراعيه، لاستكشاف القضايا المتعلقة بالحمل والأمومة في العالم القديم، بالإضافة للمعتقدات المصرية القديمة المرتبطة بها.
كشفت الدراسة عن جنين يبدو من حجم رأسه أنه كان في عمر يتراوح بين 26 : 30 أسبوع، ما يعني أن الأم كانت حاملًا في شهرها السابع تقريبًا عند وفاتها، لكن ما أثار اهتمام الباحثون هو بقاء هذا الجنين على حاله داخل رحم أمه، بالرغم من وجود حالات سابقة موثقة لتحنيط أطفال غير مكتملي النمو (مجهضين) ودفنهم بجوار والديهم.
إضافةً إلى ذلك، وجد الباحثون أربعة من أعضاء المومياء بداخلها، ومن المرجح أن تكون هذه الأعضاء هي الرئة والكبد والمعدة والقلب، التي استخرجها المحنطون، ثم قاموا بتحنيطها وإعادتها إلى الجسم، وفقًا لممارسات التحنيط الشائعة. فلماذا لم يفعل المحنطون الشيء نفسه مع الجنين؟
لم يصل الباحثون لإجابة قاطعة بهذا الشأن، فالبعض صرّح أنه ربما كان من الصعب على المحنطون استخراج هذا الجنين ببنيته الضعيفة من الرحم دون الإضرار به أو بجسد الأم، كما أضاف البعض أنه ربما يكون هناك سببًا دينيًا وراء ذلك، فربما اعتقدوا وقتها أن الطفل الذي لم يولد بعد ليس له روح لتسكن جسده بعد البعث، أو أنه سيكون أكثر أمانًا داخل رحم أمه في العالم الآخر، ما يحتاج للمزيد من البحوث والدراسات في هذا المجال.
أسئلة مثيرة تتعلق بمومياء السيدة الغامضة
أثارت مومياء السيدة الغامضة العديد من التساؤلات المحيرة، فعندما أشار الباحثون لوجود هذا الجنين بداخلها، ما لبثوا أن واجهوا بعض الانتقادات والأسئلة المهمة، التي لم تقتصر على السؤال السابق ولكن امتدت لتصل إلى سؤال آخر مهم، لماذا لم تُظهر الصور المقطعية للجنين وجود عظام واضحة؟
طرحت هذا السؤال "سحر سليم" أستاذة علم الأشعة بجامعة القاهرة، والمتخصصة في علم استخدام الأشعة لدراسة المومياوات، في ورقة بحثية نُشرت في ديسمبر 2021، وأضافت أن الهدف من طرح هذه التساؤلات هو فتح باب المناقشة حول هذه النتيجة المثيرة التي توصل إليها فريق مشروع وارسو.
دعت "سحر سليم" القائمين على البحث لإجراء دراسات إشعاعية متقدمة على المومياء، للتأكد من ماهية هذا الجسم المكتشف داخل حوض المومياء، قائلةً بأنه عادةً ما يكشف التصوير المقطعي بالكومبيوتر في حوض المومياوات عن بقايا مواد التحنيط، وأنه ما لم يتمكن الباحثون من التعرف تشريحيًا على هذا الجنين، فلا يمكن القول بأنه جنينيًا من الأساس.
أضافت كذلك، أنه وبحكم التجربة السابقة احتفظت المومياوات والهياكل العظمية لأجنة قدماء المصريين غير المحنطة بتركيبها التشريحي الواضح، ثم أنه من غير المحتمل أن يكون هذا الهيكل المضغوط شبه المستدير هو رأس الجنين كما هو مفترض في البحث، لأن عظام الجمجمة في الأجنة تكن غير ملتحمة، ما يعني أنها ستتفكك وتتحلل بعد الوفاة.
رد الباحثون على الانتقادات ونظرية المخلل
توقع الباحثون مثل هذه الأسئلة، ما دفعهم للبحث عن إجابات واضحة منذ الإعلان عن اكتشافهم، وجاء رد الفريق البحثي على ما أثارته "سحر سليم" في ورقة بحثية أخرى نُشرت في يناير من العام الحالي، تطرح المزيد من التفاصيل والأدلة التي تشرح أسباب الحفاظ على الجنين في هذه الصورة.
وفقًا لنظريتهم، فإن الجنين في هذه الحالة بقي في الرحم في صورة أشبه بالمخلل، قد لا يكون هذا هو الوصف الأمثل، ولكن هذا ما استعان به الباحثون لشرح وجهة نظرهم، بشأن احتفاظ الجنين بأنسجته الداخلية بالرغْم من تحلل العظام.
تزيد حموضة الدم في الجثث، بما في ذلك ما يصل لبيئة الرحم، كما تزداد تركيزات الأمونيا وحمض الفورميك بمرور الوقت، وبوجود ملح الناترون الذي استخدمه المصريون القدماء في تحنيط الجثث، لمنع وصول الهواء والأكسجين إلى داخل أنسجة الجثة، أصبحت النتيجة النهائية هي رحم محكم الإغلاق يحتوي على جنين في بيئة ذات حموضة عالية.
كان الجنين في بيئة مماثلة لتلك الموجودة بالمستنقعات، فأدى التحول من البيئة القلوية للبيئة الحمضية إلى تحلل جزئي للعظام، وإزالة جزء كبير من المعادن الموجودة بها، التي بالطبع لم تكن كثيرة في حالة هذا الجنين، وذلك لأن عملية ترسيب المعادن لا تتم بصورتها الكاملة إلا في الثلث الأخير من الحمل، الذي لم يصل إليه الجنين مطلقًا.
أضاف الباحثون أن عملية نزع المعادن من العظام في البيئة الحمضية، أشبه ما تكون بتجربة البيضة، التي إن وضعت في إناء ملئ بالحمض، تذوب قشرتها الخارجية ليتبقى الزلال والصفار فقط، تاركًا خلفه المعادن في صورة ذائبة في الحمض.
مومياء السيدة الغامضة وعملية التحنيط المركبة
ردًا على مقارنة الدكتورة "سحر سليم" بين هذه الحالة والحالات المسجلة المعروفة لأجنة محفوظة العظام في السابق، أشار الباحثون إلى أنه عند النظر إلى صور الأشعة المقطعية لهذه المومياوات، مثل مومياوات أطفال توت عنخ آمون، فإنها لا تحتوي أيضًا على عظام محفوظة جيدًا، بسبب ضعف هذه العظام وقلة المعادن بها.
وأضاف الباحثون، أنه وبالرغم من اتباع أساليب التحنيط المعتادة في هذه الحالات، تظل العظام غير واضحة بالكامل في صور الأشعة المقطعية المأخوذة لهذه المومياوات. أما في حالة الجنين المكتشف حديثًا، فإن طريقة التحنيط نفسها مختلفة، ولذلك لا يمكن المقارنة بأي حال من الأحوال بينها كحالة فريدة، وبين الحالات السابقة المعروفة.
أخيرًا، ما زالت مومياء السيدة الغامضة محل نقاش وجدل علمي كبير، نظرًا لما يمكن أن تحمله من أسرار عن المعتقدات الدينية أو مدى التقدم الطبي في رعاية الحوامل في مصر القديمة، وهي إلى ذلك تفتح الباب أمام العديد من الباحثين حول العالم، للكشف عن مومياوات أخرى بنفس الحالة، وربما تكون في النهاية مجرد مومياء مثيرة للجدل، تحمل بداخلها ورمًا رحميًا أو بقايا مواد تحنيط، أخطئ الباحثون في التعرف إليها، وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة.