سأحكي لك القصة من مبتدأها، واحكم أنت بنفسك، اتفقنا؟
كنت في غرفة المعيشة جالسًا لأستريح بعد أن رتبت مكتبتي وسريري في الغرفة الخاصة بي، ثم هممت بالعودة إلى غرفتي لاستكمال الدراسة والمطالعة؛ فأنا أحب القراءة والبحث كما ترى، لكن ما إن وصلت غرفتي حتى وجدت ما أثار غضبي، الكتب على الأرض والسرير الذي رتبته ما عاد مرتّبًا وانقلب حال الغرفة رأسًا على عقب! فماذا حدث؟
جلست لأحلل الأمر وأدرس الموقف، سمّيت ما حدث في غرفتي (خرابًا)؛ وفكرت بالفاعل؛ فما وجدت سواه (المخرّب الصغير) الذي أنجبته والدتي مؤخرًا، ثم بعد هذا وجدت من هذه المقدمات أن الأمر تم (ما بين الثانية إلى الثالثة ظهرًا)؛ لأني لم أرى أخي الصغير فيهما، الخيوط تتشابك الآن.. إذن هو فعلها.
لماذا ندرس الجيولوجيا؟
"أولئك الذين يتجاهلون التاريخ محكومون بتكراره" جورج سانتيانا
في كتاب (تاريخ جديد للحياة) يبحر بنا العالمان بيتر وورد و جو كيرشفينك في رحلة جيولوجية رائعة، عن تاريخ الأرض وتكوينها والاكتشافات الجذرية حول أصول الحياة على الأرض وتطوّرها، وفي مقدمة الكتاب نجدهما يركزان على أهمية السرد التاريخي للجيولوجيا مستشهدين بالعديد من الأمثلة، منها قول الأديب الأمريكي جيمس بولدوين في ستينات القرن الماضي: "الناس محبوسون في التاريخ، والتاريخ محبوس فيهم." ويقولون أنه يقصد الأعراق، فحينما ننظر مثلًا في الحمض النووي (DNA) الخاص لأي بشريّ سنرى تاريخ حافل من التطور الذي حدث للإنسان على مر الزمان، أي أن الحمض النووي (DNA) هو كتاب التاريخ الذي يحكي قصة البشريين منذ وجودهم على الأرض.
أما الجيولوجيون فلديهم القدرة على معرفة التاريخ الجيولوجي للأرض وتكوّنها مثل ما يفعل البيولوجيون مع الإنسان بالحمض النووي، وقد برّر العالمان تشجيعهم على دراسة تاريخ الأرض، بأنه يمكننا تجنّب الكثير من ويلات الكوارث الطبيعية البيئية لو بذلنا القليل من المجهود في دراسة ما كان على الأرض من كوارث، كـ حادثة "الانقراض الجماعي الأكبر" على سبيل المثال لا الحصر، وليست هذه هي الفائدة الوحيدة كما سنرى.
أما عن التاريخ الجيولوجي فسنجده موضَحًا بشكل كامل في (السلم الزمني الجيولوجي)، والذي يوضّح العصور الزمنية المختلفة التي مرّت بكوكبنا الرائع، كما ستجده عندك في المخطط التالي:
إذن، كما فعلنا مع أمر الغرفة في أول المقال، حين جمعنا المقدمات وربطنا الخيوط لتتشابك مع بعضها لنستنتج بعض الاستنتاجات، نفعل مع الجيولوجيا والسلم الزمني الجيولوجي، إذ عن طريق بعض المقدمات (كمعرفة حال الأرض في فترة من الزمان وغيرها) يمكنني أن أعلم حال الحياة على الأرض في هذه الفترة الزمنية واستنتج ما هو أكبر.
لعلك تسأل الآن: إذا كان باستطاعتنا أن ندرس تاريخ البشر على الأرض عن طريق الحمض النووي (DNA) الذي حُمل فيه أخبار البشر منذ نشأتهم بناءً على عملية الانتخاب الطبيعي وسلسلة من التطورات التي مرّ بها الإنسان والتي يمكننا من خلالها معرفة رأس الأمر وسنامه، فماذا عن الأرض؟ كيف يمكنني دراسة الأرض منذ خمسين مليون سنة مثلًا؟ كيف سأعرف أخبارها وأحوالها في هذا الوقت؟
عن طريق الأحافير..
الأحافير يا صديقي القارئ هي بقايا حيوان أو نبات موجودة في الطبقات الأرضية، محفوظة في الصخور أو مطمورة بعد تحللها خلال الأحقاب الزمنية، ومثلما تعرف فإن الأحافير تتغير بتغيّر الزمان وتتطور، وبالتالي الأحافير التي كانت موجودة منذ مائة مليون عام غير التي كانت منذ عشرة ملايين فقط؛ وبالتالي استطاع العلماء تأريخ الطبقات الأرضية وتصميم السلم الزمني الجيولوجي عن طريق الأحافير التي يجدونها أثناء دراستهم للقشرة الأرضية والجبال والصحاري والبحار.. إلخ.
من أكثر الأحداث التي أحدثت ضجة في السنوات الأخيرة، كشف جيولوجي هام وثق الفترة ما بين (94 - 66 مليون سنة)، والتي تمثّل آخر حقبة في العصر الطباشيري- على يد فريق بحثي مصري بقيادة الدكتور هشام سلًام بوصولهم إلى أحفورة ديناصور هو الأول من نوعه في القارة كلها (منصوراصورس)، والذي يبلغ طوله 10 أمتار، ووزنه حوالي 5 أطنان، وعمره حوالي 75 مليون سنة، وجرى توثيق كل ما يتعلق به من معلومات، بناء على دراسات مُعمقة للخرائط الجيولوجية والحفريات الدقيقة المُكتشَفة.
لكن ما وجه الفائدة من اكتشاف أحفورة ديناصور عاش منذ ملايين السنين؟
سنعود ونقول أن مثل هذه الاكتشافات تجعلنا على مستوى أعلى من فهم العالم والطبيعة من حولنا بحيث لا نقع في فخّ وقع فيه من قبلنا من الكائنات (والتي قد انقرض منها الكثير)، بالإضافة إلى أن هذا الاكتشاف وهذه الأحفورة بالأخص كما أكد سلّام "أول دليل علمي يُثبت اتصال قارتي أفريقيا وأوروبا جيولوجيًّا في هذه الحقبة الزمنية؛ إذ اكتشف فريق البحث وجودًا للديناصور المُكتشف في أوروبا"
رئيس الفريق البحثي لـ"منصورا صورس" يفجر مفأجاة: ألمانيا سرقت 4 هياكل ديناصوراتhttps://t.co/PeQLSOFd7l#مصراوي #حوادث pic.twitter.com/4Yuf5Evk15
— مصراوي (@masrawy) January 30, 2018
نحن أحافير المستقبل
تخيّل معي يا عزيزي، أناس يأتون بعدنا فيدرسون هذا العصر الذي نحن فيه، فيجدون أثارًا لوجودنا، بالمناسبة قد سُمّي العصر الذي نحن فيه بعصر الأنثروبوسين كما أطلق عليه الكيميائي (بول كروتزن) الحاصل على جائزة نوبل عام 2000، وقد قال العلماء أن هذا العصر بدأ عام 1950، والحقيقة يا صديقي أننا لن نملك تاريخًا جيولوجيًا مشرفًا!
وهذا طبيعي، فنحن الجيل الوحشيّ الذي يكب ملايين الأطنان من النفايات يوميًا، نحن الجيل الذي ظهر في عصره القنابل النووية التي ما زالت البيئة تعاني من نواتجها بعد إطلاقها للجو منذ عشرات السنيين، نحن الجيل الذي ترى في عصره الرواسب الطينية في قاع مصب كلايد باسكتلندا مما يوثّق ويثبت التلوث الكيميائي الناتج عن العمليات الصناعية، وغيرها الكثير من الكوراث التي إن نسيها الإنسان فلن تنساها الأرض التي تحمله.
واخيرًا،
كمثلي ومثل أخي الشقيّ، غفرت له ما فعل بغرفتي ولن تنسى غرفتي ما فُعل بها لسوء الحظ، يجب أن أذهب لأرتبها مرة أخرى الآن.