خلال خمسينيات القرن الماضي عمل مجموعة من العلماء الأمريكيين على تطوير حبوب منع الحمل للسيدات، بحيث تعمل كوسيلة فعالة لتحديد النسل، وبحلول الستينيات أصبحت حبوب منع الحمل للسيدات واحدة من أهم التطورات والاكتشافات الطبية في القرن العشرين.
ساهمت حبوب منع الحمل للسيدات في تحديد النسل بشكل واضح على مدار ما يزيد عن نصف قرن، ولكنها لم تخل من بعض الآثار الجانبية التي أدت إلى البحث عن وسائل أخرى، ومؤخرًا إلى البحث عن بديل مناسب للرجال.
وسائل منع الحمل للرجال
تعتمد حبوب منع الحمل التقليدية للسيدات على خلق حالة هرمونية مشابهة لتلك التي تحدث في أثناء الحمل، بحيث تمنع الهرمونات المبيض من إنتاج بويضة ناضجة، وعليه فإنها تمنع حدوث الحمل.
تأتي حبوب منع الحمل كواحدة من خيارات عدة متاحة للنساء، ومع ذلك تعتمد أغلب هذه الخيارات على نفس فكرة الحبوب، فهي وسائل هرمونية تحاكي حالة الحمل، وقد تشترك مع الحبوب في الكثير من الآثار الجانبية.
على مدار نصف قرن، اهتم العلماء بتطوير وسائل منع الحمل للسيدات، مع عدم بحث إمكانية استخدام وسائل لمنع الحمل للرجال، حيث تقتصر وسائل منع الحمل للرجال حتى الآن على طريقتين فقط وهما:
- الواقي الذكري: حيث يشكل حاجزًا يمنع الحيوانات المنوية من الوصول إلى البويضة وتخصيبها.
- التعقيم الجراحي: وهو إجراء جراحي بسيط يمنع قذف الحيوانات المنوية من القضيب، عن طريق قطع القناة الدافقة، وعادة ما تكون هذه الجراحة دائمة.
منذ عدة سنوات بدأت العديد من المشاريع البحثية، التي لا تزال مستمرة، بهدف الوصول إلى طرق مختلفة لمنع الحمل للرجال، وعلى رأسها حبوب منع الحمل، التي يؤمن كثير من الباحثين بأنها ستكون وسيلة فعالة لمنع الحمل خلال السنوات القليلة القادمة.
قد تكون فكرة الحصول على حبوب منع حمل للرجال لا تزل قيد البحث، ولا يتوقع أكثر الباحثين تفاؤلًا أن تُطرح كبديل لوسائل منع الحمل التقليدية قبل سنوات من الآن، ولكن تنذر الأبحاث الجارية حاليًا، بأننا من الممكن أن نرى قريبًا وسيلة منع حمل مخصصة للرجال وآمنة ولا تؤثر في القدرة الإنجابية على المدى الطويل.
هناك مجالان رئيسيان للبحث في تطوير وسائل منع الحمل للرجال وهما:
- وسائل هرمونية: وفيها تُستخدم الهرمونات الصناعية -كتلك المستخدمة في حبوب منع الحمل للسيدات- لإيقاف نمو الحيوانات المنوية السليمة بشكل مؤقت.
- وسائل غير هرمونية: تُستخدم تقنيات مختلفة لمنع الحيوانات المنوية السليمة من الدخول إلى الرحم والوصول إلى البويضة وتلقيحها.
وسائل منع الحمل الهرمونية للرجال
في الرجال الذين يتمتعون بالخصوبة، تعمل الخصيتان على إنتاج خلايا منوية جديدة باستمرار، وذلك بواسطة هرمون التستوستيرون (هرمون الذكورة) بحيث تصبح الخلايا المنوية جاهزة للإنقسام والتحول إلى حيوانات منوية بمجرد حدوث الجماع.
لذلك، فإن الهدف من أبحاث منع الحمل الهرمونية للرجال هو إيجاد طريقة لمنع تأثيرات هرمون التستوستيرون مؤقتًا، كي تتوقف الخصيتان عن إنتاج خلايا منوية سليمة، مع الأخذ في الاعتبار لضرورة ألا ينخفض مستوى هرمون الذكورة للدرجة التي تؤدي لحدوث آثار جانبية، كفقدان الرغبة الجنسية مثلًا.
تتمثل هذه الطريقة في حقنة منع الحمل للرجال، التي تحتوي مزيجًا من هرموني التستوستيرون والبروجيسترون المصنعين معمليًا، بحيث يمنع هذا المزيج الجسم من إنتاج الحيوانات المنوية، ومع ذلك، فإنه يحافظ على نسبة هرمون التستوستيرون طبيعية في الدم، لتجنب الآثار الجانبية المحتملة لانخفاضه.
على الرغم من وصول بعض تجارب منع الحمل هرمونيًا للرجال إلى مراحل متقدمة للغاية، بما في ذلك تجارب المرحلة الثالثة أو ما يعرف بالتجارب السريرية على البشر، إلا أن بحث بعض العيوب ومحاولة التغلب عليها، قد تؤخر من ظهور هذه الحقن في الأسواق، حتى تحصل على الموافقات والتراخيص اللازمة لذلك.
أحد أهم العيوب التي لم يجد لها الباحثون سببًا حتى الآن، هي اختلاف معدلات إنتاج الحيوانات المنوية لدى الذكور من أصول عرقية مختلفة، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن هذه الاختلافات ربما تكون ناتجة عن عوامل وراثية أو غذائية أو بيئية، ولكن حتى الآن لم تعرف الأسباب على وجه الدقة.
الحلول غير الهرمونية: حبوب منع الحمل المرشح الأقوى
في دراسة حديثة ابتكر فريق من الباحثين بجامعة مينيسوتا حبوب لمنع الحمل للرجال، ولكنها تختلف عن الحبوب النسائية في كونها وسيلة غير هرمونية لمنع الحمل، وهي بذلك تختلف عن حقن منع الحمل للرجال، التي لا تزال كذلك في مرحلة البحث والتطوير.
تهدف هذه الحبوب الجديدة إلى تفادي الآثار الجانبية المحتملة لاستخدام الوسائل الهرمونية للرجال كالحقن، حيث إنها تستهدف بروتين (RAR-α) أحد مستقبلات حمض الريتينويك المعروف باسم فيتامين أ.
يلعب فيتامين أ دورًا هامًا في نمو الخلايا وتمايزها بما في ذلك تكوين الحيوانات المنوية وتطور الأجنة بعد الإخصاب، ولذلك فإن تعطيل مستقبلات فيتامين أ في الخلايا المنوية، يعني تعطيل قدرتها على التمايز إلى حيوانات منوية سليمة.
أجريت هذه الدراسة على الفئران، حيث تناولت الحبوب عن طريق الفم لمدة أربعة أسابيع فقط، ولاحظ الباحثون بعدها انخفاضًا ملحوظًا في عدد الحيوانات المنوية لدرجة أنها أصبحت عقيمة، وعندما توقف الباحثون عن إعطاء هذه الجرعات للفئران، لاحظوا انعكاس التأثير، حيث عادت للفئران قدرتها على الإنجاب في غضون 4 : 6 أسابيع.
وفقًا للباحثين فإن هذه الحبوب فعّالة بنسبة ٩٩٪ في منع الحمل لدى الفئران الذكور، ما يعني أن المرحلة القادمة قد تكون بإجراء التجارب المحدودة على البشر، لاختبار مدى فاعلية هذه الحبوب، ودراسة تأثيراتها على الرجال.
على الرغم من النجاح الكبير في الفئران، فإن هذا النجاح لا يضمن الحصول على نفس النتيجة في البشر، لهذا سيتابع الباحثون الأمر عن كثب، حيث ستجرى التجارب السريرية البشرية بحلول الربع الأخير من هذا العام ٢٠٢٢.
عمل الباحثون على دراسة الآثار الجانبية لتناول هذه الحبوب على الفئران، ليجدوا أن هذه الآثار محدودة، فكونها غير هرمونية، يجعلها أكثر أمانًا من الوسائل الهرمونية، كما اختبر الباحثون ذلك بزيادة الجرعة ب١٠٠ مرة، ليجدوا أن الفئران لم تتأثر كثيرًا بذلك، ولم يظهر الدواء أي سمّية.
في النهاية، يعتقد الكثيرون أنه حان الوقت ليتحمل الرجال قليلًا من أعباء منع الحمل، بالمساهمة بشكل فعّال في ذلك، لتقليل المخاطر المحتملة والآثار الجانبية التي تعانيها ملايين السيدات حول العالم، واللجوء لبديل يضمن المشاركة دون الإضرار أيضًا بصحة الرجال، ودون اللجوء إلى حل قاطع غير قابل للعكس، والحرمان من فرصة الإنجاب مدى الحياة.