منذ زمن قديم جذبت أجرام السماوات أنظار البشر، تطلعوا إليها وألهبت خيالاتهم. جسدوها في صورة أشخاص ودمجوها مع أساطيرهم.
ولأن القمر ألمع أجرام الليل، حصل على مكانة خاصة. جعله العرب القدامى الإله سين، وجعله قدماء المصريين الإله خونسو، وتصوره الإغريق في صورة الإلهة أرتيميس، والرومان في صورة الإلهة ديانا.
هذا بخلاف الشعراء الذين جعلوا جماله من جمال الحبيبة، وجعله بعض الفلاسفة حدًا فاصلًا بين العالم الأرضي (العالم تحت القمري) والعالم السماوي (الذي يشمل القمر وما بعده)، والعلماء الذين حاولوا تفسير حركاته وأطواره وخسوفه.
حلم الصعود إلى الفضاء
لعل حلم الإفلات من جاذبية الأرض شاغل عقول البشر منذ زمن قديم، إلا أن هذا الحلم لم يتحول إلى حقيقة نظرية ممكنة إلا مع الثورة العلمية التي أرسى نيوتن قواعدها. اتضح أن أي مقذوف يندفع نحو السماوات لا يلبث أن يسقط نحو الأرض، إلا أنه كلما زادت سرعة الجسم المنطلق نحو السماوات زادت المسافة التي يقطعها قبل أن يهوي نحو الأرض، وعندما يبلغ الجسم سرعة معينة فربما يستمر في الدوران حول الأرض ولا يسقط نحوها، ولو ازدادت السرعة أكثر وأكثر فقد يتغلب الجسم على جاذبية الأرض ويفلت من قبضتها محلقًا في قلب الفضاء.
بالطبع كان القمر أحد أول الأهداف التي فكر البشر في الذهاب إليها. ولِمَ لا وهو أقرب الأجرام إلى الأرض وأكثرها لمعانا في سماء الليل.
حلم الفضاء.. تاريخ من الانتصارات البشرية
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تطورات مثيرة حولت حلم السفر في الفضاء إلى حقيقة واقعة. استطاع الجيش النازي في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، أن يصنع صواريخ يمكنها التحليق لمسافات شاسعة قبل أن تسقط على أهدافها. وهكذا صار الوصول إلى سرعات عالية تكفل اتخاذ مدارًا حول الأرض، أمرًا قريبًا.
تمكن الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٥٧ من وضع أول قمر صناعي "سبوتنيك١" في مدار حول الأرض. وبعد ذلك بأربع سنوات فقط استطاع الروسي يوري جاجارين أن يحلق بمركبة الفضاء "فوستوك١" في مدار في الفضاء حول الأرض على ارتفاع ٣٢٧ كم من سطحها.
ومن ثم بدأ الصراع من أجل الوصول إلى القمر بين القوتين العظمتين في ذلك الوقت، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. وهو الصراع الذي حازت فيه الولايات المتحدة الأمريكية قصب السبق، إذ تكلل مشروع أبولو بهبوط أول إنسان على سطح القمر، نيل أرمسترونج. وحال هبوطه قال عبارته الشهيرة: "خطوة صغيرة لإنسان، قفزة كبيرة للإنسانية".
كان أرمسترونج على متن الرحلة أبولو ١١ وهبط على القمر في عام ١٩٦٩. استمرت الرحلات بعد ذلك حتى الرحلة أبولو ١٧ عام ١٩٧٢، وحملت جميعها بشرًا وهبطت على القمر عدا الرحلة أبولو ١٣ التي عانت من مشاكل تقنية واضطر طاقمها إلى الرجوع بعد ساعات من التوتر والترقب والقلق واحتمالات الضياع والموت في الفضاء.
خمسون عاما لاحقة من الأحلام والمنجزات
صحيح أن البشر منذ ذلك الوقت لم يقوموا بأنفسهم برحلات إلى عمق الفضاء البعيد، وصحيح أن أغلب رحلاتهم لم تعد تتخطى رحلات مدارية، تتخذ فيها مركبة الفضاء مدارًا حول الأرض أو تلتحق بمحطة الفضاء الدولية، إلا أن البشر لم يتوقفوا للحظة عن استكشاف الفضاء وساعدهم في ذلك القدرة على تصنيع مسابير أفضل وتصميم روبوتات قادرة على تحمل كافة الأعباء.
استمر البشر في إرسال رحلات الفضاء، من دون أن يكونوا هم على متنها، في الحقيقة لا تحتاج الأجهزة والروبوتات إلى الطعام أو الشراب أو الحرارة المنضبطة بدقة أو وسائل الترفيه، لا يمرضون ولا يصيبهم الملل أو الإرهاق. هكذا اكتفى البشر بإرسال المسابير والروبوتات على متن تلك الرحلات وجمع البيانات من خلالها لتكوين فكرة أكبر عن جيراننا في المجموعة الشمسية وعن الشمس نفسها، في الحقيقة تحملت هذه المسابير ظروفًا صعبة جدًا وضحّى بعضها بنفسه من أجل الحصول على البيانات، وهي الأمور المستحيلة على الإنسان والتي كانت لتكلفه حياته بل ربما فشل فيها كذلك.
هبطت تلك الرحلات غير المأهولة على المريخ وزارت أجواء الزهرة وعطارد القاسية، وقصدت المشتري وزحل وأقمارهم وقصدت الشمس في رحلات انتحارية. بل يمضي اثنان منها الآن "فوياجر١" و"فوياجر٢" في سبيلهما عبر الفضاء بين النجمي، بعد أن غادرا المجموعة الشمسية برمتها، يحملان معهما رسالة بشرية، إذ ربما يصادفان كائنات فضائية في يوم ما.
لم يعد الفضاء حكرًا على الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا
بدأت دول مختلفة تنتبه إلى أهمية رحلات الفضاء وعلومه. في الحقيقة كفلت برامج الفضاء تطوير الكثير من التقنيات الأرضية مثل نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية "جي بي إس" أو تقنية التصوير الطبي باستخدام الرنين المغناطيسي، أو حتى بعض أنواع الإطارات الخاصة والمكابح وأجهزة تنقية الهواء وأجهزة التبريد الموفرة للطاقة وغيرها.
إلا أن الأمر لا يقف عند ذلك ولا يقف أيضا عند السلطة والقوة التي يمتلكها من يسيطر على الفضاء المفتوح، فلقد جُبل الإنسان على حب المعرفة والتساؤل وكثير من إجابات الأسئلة توجد هناك بين النجوم، وهي تساؤلات وإجابات ملهمة للبشر ومحفزة، ربما لن تكفل لهم تحسين أحوالهم على مستوى التقنية فقط بل على المستويات الفلسفية والروحانية كذلك.
لقد اكتشفنا مؤخرا أن كثيرًا من التجارب التي نحتاجها من أجل تطوير نظريات العلم البحتة، تحتاج إلى أن تُجرى هناك بعيدًا في الفضاء، وهي النظريات التي يكفل تطويرها تغييرات شاملة في كل شيء.
الرحلات التي وصلت إلى القمر حتى الآن
وكما أشرنا نظرًا إلى أن القمر هو الجار الأقرب لنا فقد نال نصيبا كبيرا جدا من بين الرحلات التي تقصد الفضاء.
أتمت الولايات المتحدة الأمريكية ٣٢ مهمة إلى القمر وهي الآن تستعد لإطلاق أولى خطوات مشروع أرتيميس الذي يهدف إلى إعادة الإنسان إلى سطح القمر بعد غياب يزيد عن الخمسين عامًا.
أما الاتحاد السوفيتي فنجح في إتمام ٢٣ مهمة إلى القمر، والصين سبع مهمات، واليابان مهمتان، ولوكسمبورج والاتحاد الأوروبي والهند مهمة واحدة لكل منها.
كما تستعد الإمارات العربية المتحدة لإرسال مركبة فضائية إلى القمر كذلك في المستقبل القريب، ويذكر أنها أرسلت في وقت سابق كذلك مسبار الأمل، الذي استطاع أن يتخذ مدارًا حول المريخ.
مهمة أرتيميس
هي مهمة ناسا الأحدث التي تقصد القمر، وتهدف إلى العودة إلى القمر بعد غياب أكثر من خمسين عامًا وإنزال أول امرأة، وأول شخص من ذوي البشرة الملونة على سطحه قاصدة المساواة. تهدف المهمة كذلك إلى بقاء الفريق لمدة أسبوع على سطح القمر ليجري خلالها أبحاثًا علمية واستكشافات.
في الحقيقة لا يتوقف الطموح عند هذا. تجرب ناسا في واقع الأمر في هذه المهمة التكنولوجيا الجديدة والمعارف المتراكمة على مدار عقود من استكشاف الفضاء وخبرات التعاون مع القطاع الخاص في هذا الصدد، تحديدًا شركة سبيس إكس المعنية بتقنيات استكشاف الفضاء، وشركة بوينج الرائدة عالمياً في صناعات الطائرات.
ثمة آمال معقود على تطوير مهمات مستقبلية تستهدف الوصول بالبشر إلى المريخ والفضاء العميق وبناء محطة فضاء في مدار حول القمر، وبناء قاعدة قمرية تجعل المكوث على القمر ممكننًا لأسابيع وشهور.
تذهب ناسا إلى أن العينات التي سوف تجمعها هذه الرحلة سوف تكون أفضل وأشمل وتحمل معلومات أكبر عن تربة القمر ومعادنه وربما تفتح آفاقًا صناعية واقتصادية جديدة.
في الحقيقة هي ليست خطوة واحدة لإنسان بل خطوات عديدة متراكمة لبشر تكفل تحويل الأحلام والخيالات إلى حقائق وقفزات ضخمة.