ترددت الآونة الأخيرة بعض العبارات المناصرة والداعمة لتمكين المرأة، والتي كان من أهمها شعار "Strong independent woman" المدوّي، والذي أصبح رمزًا للاستقلالية والتحرر في مجتماعاتنا العربية. لكن ماذا لو عرفت عزيزي القارئ أن إناث النحل يطبقن العديد من شعارات تمكين المرأة الأشد تطرفًا في مملكتهم؟
التزاوج في مملكة نحل العسل
النحل من الكائنات التي يُضرب بها المثل في التنظيم والدقة، حيث يكون لكل مملكة - خلية - قوانينها وأعرافها الخاصة؛ فخلية النحل يكون لها ملكة واحدة مهمتها الإشراف وتوزيع الأدوار وتقوم كذلك بعملية التكاثر لزيادة عدد أفراد المملكة، ومجموعات من العاملات - الشغالات - التي تعتني بالملكة وتقوم بصنع الشموع والغذاء الملكي لها، وأيضًا تضم المملكة بعض الذكور اللذين يقتصر دورهم على التزاوج فقط، ولكلٍ وظيفته التي يتقنها.
من المعروف أن الكائنات التي تتكاثر جنسيًا تحتوي خلاياهم على نسختين من كل جين، أي تكون ثنائية المجموعة الصبغية 2ن، وعند التكاثر تقوم هذه الكائنات بإنتاج ما يُعرف بالأمشاج، والأمشاج هي عبارة عن خلايا تحمل نسخة واحدة فقط من كل جين، لذا تكون "أحادية المجموعة الصبغية ن".
عند الإخصاب يحدث اتحاد مشيج مذكر "ن" مع مشيج مؤنث "ن"، لينتج فردًا جديدًا كاملًا "2ن"، أي يحتوي على نسختين من كل جين 2ن؛ نسخة من الأب ونسخة من الأم، وتصبح خصائصه مزيجًا بينهما، وهذا ما يُسمى بـ "التكاثر الجنسي". الآن دعونا نعود للنحل..
تحليق الملكة للزفاف
لعل من أبرز العجائب في عالم النحل هي آلية التكاثر، حيث تقوم ملكة نحل العسل "ثنائية المجموعة الصبغية 2ن" برحلات قصيرة لا تتجاوز الدقيقتين إلى خارج الخلية للاستكشاف وتحديد موقع المملكة، قد تطول هذه المدة لتصل إلى 30 دقيقة وتُسمى بـ "رحلات ما قبل الزفاف".
بعد 2 - 3 أيام تنتج الملكة نوع من البيض "أمشاج أحادية المجموعة الصبغية ن"، ثم تخرج من المملكة وتحلق لأقصى ارتفاع إشارةً منها بالرغبة في التلقيح، فيما يُسمى بـ "رحلة الزفاف"، فسرعان ما يتسابق ذكور نحل العسل للوصول إليها ليتم التلقيح. لكن مع الأسف بعد إتمام عملية التلقيح تتخلص ملكة النحل من الذكور لانتهاء وظيفتهم المحصورة على تلقيح الملكة العذراء فقط.
فالبيض الذي تنتجه الملكة "ن" يندمج مع المشيج المذكر الذي ينتجه ذكر نحل العسل "ن" ليتكون فردًا جديدًا كاملًا، ألا وهو.. أنثى نحل العسل "2ن"، وتختلف إناث النحل فيما بينها تبعًا لنوع الغذاء إلى ملكات أو شغالات وكلاهن يحملن نسختين من كل جين 2ن؛ نسخة من الملكة الأم ونسخة من الأب.
هل الملكة الجديدة تستحق التتويج؟
أكدت دراسة ألمانية حديثة بجامعة شيفيلد، أن هناك اختلافًا ملحوظًا في حجم الغدد التناسلية للملكة مقارنةً بالشغالات، حيث تميزت ملكة نحل العسل بحجم غدد تناسلية أكبر نسبيًا عن تلك الموجودة لدى الشغالات، مما أكد أن الملكة تتوج بالعرش وراثيًا قبل أن يميزها نوع الغذاء "غذاء الملكات" الغني بالسكر، أما الشغالات فتتغذى على "هلام الشغالات" وهو غذاء يحتوي على نسبة ضئيلة جدًا من السكر.
فما المثير في آلية التكاثر إذن؟
الملكة ترفع شعار الاستقلال
في الظروف غير المناسبة للتحليق، تلجأ الملكة إلى وضع نوع آخر من البيض "ن"، لا يتم إخصابه - أي لا يندمج مع مشيج مذكر - فينمو ويتمايز ذاتيًا مكونًا فردًا جديدًا، ألا وهو.. ذكر نحل العسل أحادي المجموعة الصبغية "ن"، والذي يكون أضخم أفراد المملكة حجمًا، أقصر من الملكات طولاً، لا يمتلك آلة لسع أو غددًا لإنتاج الشمع أو الغذاء الملكي، وخرطومه قصير لا يصلح لجمع الرحيق، وحتى أرجله الخلفية غير مؤهلة لنقل حبوب اللقاح.
بذلك يمكننا القول أن ذكر نحل العسل نتج من فرد أبوي واحد فقط، لهذا السبب يحمل صفات مشابهه تمامًا للأم بنسبة 100%، فيما يُعرف بـ التوالد البكري، وهو نوع خاص من التكاثر اللاجنسي الذي يحدث بواسطة المشيج المؤنث بمفرده دون الحاجة إلى المشيج المذكر.
استغل العلماء معرفتهم بهذا النمط من التكاثر وحاولوا تطبيقه صناعيًا، عن طريق تعريض البويضة "المشيج المؤنث"؛ مثل بويضة الضفدعة وبويضة أنثى الأرنب لنوع من الضغط، سواء الصعق الكهربائي أو الحراري أو الوخز بالإبر أو بعض المنشطات الكيميائية، ونجحت التجربة بإنتاج أفراد جديدة دون إخصاب، فيما يُعرف بـعملية "التوالد البكري الصناعي".
ومن هنا أدركنا أن شعار "Strong independent woman" استخدمته ملكة نحل العسل أولًا، حينما لجأت إلى "التوالد البكري الطبيعي"، وذلك عندما كانت الظروف غير ملائمة للتحليق إلى خارج المملكة لتتزاوج جنسيًا.