التنبؤ الوراثي - التنبؤ الوراثي بأنيميا الفول - ماذا يمكن أن تخبرنا الجينات

التنبؤ الوراثي - ماذا يمكن أن تخبرنا الجينات؟

لماذا أنا ؟ 

رغم تقدم العلوم الطبية والخدمات الصحية في هذا القرن؛ لا زال هناك تساؤل يشغل الأذهان لم يستطع الطب أن يجيب عليه بصورة قاطعة، ألا وهو (لماذا أنا؟) سؤال على بساطته كان ولا يزال لغزاً محيراً حتى بعد اكتشاف الجراثيم والتوصل إلى أنها مسببات الأمراض في كثير من الأحيان، خاصةً منذ أن لاحظ السير برسيفال بوتس في القرن الثامن عشر أن سرطان الصفن أصاب فقط بعضًا من عمال تنظيف المداخن في إنجلترا دون غيرهم، نظرًا لطبيعة عملهم. 

إذن (لماذا أنا) لماذا يمرض شخص نتيجة تعرضه لأحد مسببات المرض بينما لا يمرض الآخر الذي تعرض أيضاً لذات المسبب – في الحقيقة لطالما داهم هذا السؤال الطب؛ فأولى مهمات الطب معرفة مسببات الأمراض التي تصيب البشر، والواقع هناك أمراض عديدة مثل الملاريا والالتهاب الرئوي، كشف الطب النقاب عن أسبابها في القرن الماضي. كما أنه سؤال رئيسي لأن الأمراض المنتشرة في هذا العصر مثل أمراض القلب، والسرطان وغيرهم تبدو وكأنها تصيب الناس عشوائياً، ويقتصر الفهم الطبي لأسبابها على القول بأنها أمراض عائلية وهو أيضًا سؤال له خطـره فقد أصبح شـعـار الـطـب الحديث اليوم (تُوقي حدوث المرض) أولي من علاجه بعد وقوعه. 

(لماذا أنا؟) يعني الكثير لأنه لو أمكننا أن نحدد السبب في أن شخصاً معينًا يصاب بمرض ما فقد نتعلم الطريقة التي نقطع بها الطريق على المرض وإنهاء دورة اكتماله وتطوره، ونتجنب نقاط الخطر المحتملة في البيئة، ونعرف بالضبط من هو الذي يحتاج إلي هذا النوع أو ذاك من المشورة الطبية. 

حتي تلك العهود القريبة التي تقدمت فيها العلوم الطبية، لم تكن الإجابات التي قدمتها مُرضية. فعندما تذهب للطبيب ويخبرك بأنك قد أصابتك جرثومة أو أنك تعمل أكثر مما ينبغي فإنه في هذه الحالة قد حدد العامل الخارجي المسبب لمرض، واستند في هذا التشخيص إلى الإحصائيات التي أُجريت على الحالات المشابهة لحالتك. وعندما يكشف اختبار معملي عن وجود بكتيريا تتكاثر في الدم فإنه لا يحدد تحديداً دقيقاً العوامل الأساسية التي سمحت لمستعمرة الجراثيم أن تنمو في المكان الأول الذي أصابته في مبدأ الأمر، وإنما يحدد فقط تواجد المرض. 

قد تمكنا في العشرين سنة الماضية معرفة لماذا يُصاب شخص ما بمرض معين، ولا يُصاب آخر بالرغم من تعرض كلاهما لنفس مُسبب المرض. إن السر يكمُن في جزء منه في الشفرة الداخلية لكل فرد ألا وهي الجينات، وتلك الجينات لا تعمل وحدها أبداً، فهي دائماً تتأثر بالبيئة، كما أنها لا تكسب قط مناعة مُطلقة ضد مرض ما كما يعتقد البعض، وهي كذلك لا تؤكد بصفة مطلقة أن مرضاً ما لابد من أن يضرب ضربته، وإنما هناك معادلة واحدة تبقى دائماً هي نفسها بالنسبة لكل مرض بذاته وهي: أن الإصابة بالمرض تحدث عندما يلتقي عامل مُسبب من البيئة مع استهداف وراثي، أي عندما تجتمع البيئة وأسبابها مع عوامل الوراثة معًا.

وعليه يبدو معقولاً أنه لو أمكننا الكشف عن هاتين المجموعتين من العوامل، تمكنا في النهاية من الإجابة عن سؤال (لماذا انا؟)، وأنه ليبدو معقولاً أيضاً لو تمكنا من الكشف عن وجود تلك العوامل الوراثية قبل الإصابة بالمرض يمكننا أن نحدد تحديداً دقيقاً الأفراد المعرضين للخطر، وأن نتنباً باحتمال وقوع الإصابة بمرض ما، ومنع حدوثه في الواقع بتحذير المستهدفين بالابتعاد عن العوامل البيئية الخاصة التي تؤدي لحدوث المرض. من هنا توصلت العلوم الطبية أن الجينات لها القدرة على أن تنبؤنا بالمستقبل - تحديداً مستقبل الأجيال القادمة من حيث الصحة والمرض. 

كيف تم اكتشاف قدرة الجينات على التنبؤ؟ 

على ضفاف البحر الأبيض المُتوسط، تنتشر الجزر حيث يزرع الفلاحون في اليونان وإيطاليا الفول الإيطالي العريض أو الفافا وهو فول ضخم، قد تنمو حبته إلي نبات يبلغ طوله ما يقارب من ثماني بوصات، يعتبر الفافا الغذاء الأساسي لمعظم السكان المحليين في الربيع والصيف، كما ان حبوبة تجف وتدخر لتؤكل في الشتاء. تشكل حبة الفافا بالنسبة لمعظم سكان إيطاليا واليونان الجزء الأهم في الطعام نظراً لطعمه المستساغ وفائدته الغذائية. لكن رغم كل هذه الفائدة في عصور ماقبل الميلاد هناك من حط من قدر هذا النوع من الفول وهو الفيلسوف الإغريقي الشهير (فيثاغورس) حتى أنه نهى تلاميذه عنه؛ لكنه أبقى عن سبب النهي سراً في صدره. على مدى عقود طويلة بعد وفاة فيثاغورس لاحظ المدرسون في جزيرة سردينيا الإيطالية على تلامذتهم ملاحظات يمكن تلخيصها فيما يلي: أنه في شهر فبراير من كل عام، مع حلول الربيع، كان بعض التلامذة تخور قواهم وينخفض أداؤهم المدرسي إلى أدنى درجة دون سبب معروف، والبعض الآخر يشعر بالنعاس طِيلة النهار والليل. كانت تلك الأعراض تلازم الطلاب من شهر فبراير إلى نهاية الشهر الخامس (مايو) من كل عام، ثم يبدأ الطلاب في التعافي والنشاط من جديد ومتابعة دراستهم بنشاط. أي مثلما كانوا يمرضون فجأة يتعافون فجأة، هكذا دون أي مقدمات

أما السًكان المحليين علي الجزيرة فكان منهم من يعاني من أعراض مُشابهة لتلك الأعراض التي يعاني منها الطلاب، ومنهم من كان يتعرض للوفاة بعد تبول كمية كبيرة من الدم. حتى وصل من يعانون من هذه الظاهرة في بعض الأحيان إلى خمسة وثلاثين في المائة من سكان الجزيرة.

في أوائل خمسينات القرن الماضي وصل إلى الجزيرة لفيف من علماء أوروبا لدراسة الحالة الصحية دون أي اهتمام بتلك المشكلة التي لازمت ساكني سردينيا المحليين قرون عِدة. إنما كانت سردينيا بالنسبة لهم فرصة علمية ذات أهمية خاصة، فموقع الجزيرة منعزل في غرب إيطاليا، وموارده الطبيعية فقيرة ربما قد تكون منعدمة، وداخلها الصخري القاسي. كل هذه العوامل حفظت شخصية الجزيرة حتى من الاحتلال والحروب التي عانت منها سُكان القارة الأوروبية في العصور الوسطى. حتى أن الرومان فشلوا في احتلال الجزيرة نظراً لطبيعتها الصخرية المنيعة، واكتفوا فقط باحتلال المناطق المنخفضة حولها، أما الفينيقيون والإغريق عجزوا عجز تام عن احتلال الجزيرة وانتهى الأمر بالانسحاب.

ظل أهل سردينيا أجيالًا لا تحصي لا يتزوجون إلا من بعضهم البعض، حتى الآن يعود المقيمون في ألمانيا والنمسا وبعض دول أوروبا وهم من أصول سردينيا إلي ذويهم المحليين للزواج واختيار زوجة من نفس العشيرة. استطاع سكان سردينيا تكوين عشيرة كبيرة نقية على مستوي الجِينات حيث لا يتزاوجون من شخص خارج الجزيرة، ولا يستطيع أي شخص خارج الجزيرة أن يتزوج منهم. هذه العشيرة النقية على مستوى الجينات التي كوًنها السكان المحليين تحميها الجغرافيا القاسية لطبيعة الجزيرة. الجزيرة من ناحية الوراثة مثلها مثل لوحة أثرية رغم الترميمات البسيطة مازالت تحتفظ بألوانها وشخصيتها الأصلية. 

اقرأ أيضاً:  نظام غذائي لكل فرد

فيثاغورس والجين الخفي

في ستينيات القرن الماضي زار عالم الوراثة الشهير الإيطالي مارسيلو جزيرة سردينيا كان يري أن تلك الجزيرة تقدم له نمطاً من السكان تم التحكم فيه طبيعياً، أو معملاً حياً للوراثة البشرية. كانت زيارته للجزيرة من أجل بحث وتتبع المسارات المؤدية لأمراض بعينها لصالح (معهد سلون كترنج بنيويورك). في التوقيت نفسه كانت هناك معاهد علمية مختلفة في أوروبا تبحث في أمر مرض غريب وهو الأنيميا التكسيرية.

ومن أحد أشكال هذه الأنيميا شكل ذا طابع وراثي يظهر في أشخاص معينة عندما تبدأ خلايا الدم الحمراء في الانهيار داخل الأوعية الدموية، وإذا ما تصل تلك الخلايا المنهارة المُمزقة إلى الكليتين فإن الكلي ترشحها تمهيدًا لخروجها من الجسم على هيئة بول دموي. بسبب فقد كمية من الدم يشعر المريض بالنوم، وإذا كان الدمار شديداً في خلايا الدم يموت المريض على الفور. لهذا النوع من الأنيميا أسباب كثيرة؛ لكن بعد بعثة مارسيلو إلى سردينيا تم تحديد سبب النوع الوراثي منها. وقد أعلن مجموعة علماء من جامعة شيكاغو مبتعثين إلي الجزيرة إن المصابين من النوع الوراثي من المرض كلهم تقريبا ينقصهم إنزيم بعينه وهو إنزيم (G-6-PD) أو المُسمى إنزيم (جلوكوز – 6 – فوسفات هيدروجينيز).

يُعتبر هذا الإنزيم الحلقة الأساسية في سلسلة تفاعلات محصلتها إنتاج الطاقة اللازمة لخلايا الدم الحمراء. عند انقطاع هذه الحلقة الهامة من السلسلة، تنفجر خلايا الدم الحمراء نظراً لأن هذا الإنزيم يحميها من كيماويات بعينها ويحميها من ضغط الجدران الداخلية للأوعية الدموية التي بسبب غيابه تنفجر خلايا الدم الحمراء.

من الواضح أن المرض الذي كان يصيب الطلاب والسكان المحليين في جزيرة سردينيا نوع من أنواع الانيميا التكسيرية ذات الطابع الوراثي. لكن تلك الأعراض كانت تظهر فقط في الربيع، يبدو أن هناك عامل آخر بيئياً محفزاً على ظهور المرض. في نهاية الخمسينات انكشف الستار عن العامل البيئي الذي استمر في الاختفاء لقرون عِدة (إنه فول الفافا)، كان هذا النبات يزهر في ربيع سردينيا والانيميا التكسيرية كانت لا تصيب إلا من كان ينقصهم جين إنزيم (G-6-PD).

ثم كانوا أيضاً يفرطون في تناول حبوب فول الفافا سواء مطبوخة أو نيئة او كانوا يستنشقون حبوب اللقاح من زهرة النبات، أما السكان الذين كانوا لا يتناولون الفول ولا يسكنون بجوار حقوله فكانوا يقاومون المرض وأحياناً لا يصابون من الأساس.

التنبؤ الوراثي بأنيميا الفول
أعراض أنيميا الفول من العوامل المحفزة لأنيميا الفول أو عوز G6PD

أعراض أنيميا الفول

(بول داكن اللون - إرهاق عام - ألم في البطن - حمى - تسارع نبض القلب - إعياء ونعاس - عدم القدرة على الوقوف - دوخة مستمرة - صعوبة التنفس - يرقان أو اصفرار الجلد والمنطقة البيضاء في العين - شحوب في الوجه)

من العوامل المحفزة لأنيميا الفول أو عوز G6PD

- تناول كمية من الفول
- مجرد التعرض لحبوب لقاح نبتة الفول المثمرة في الحقل
- تناول بعض أنواع الأدوية
- التعرض للعدوى
- التعرض للتلوث ببعض أنواع الكيماويات

ملحوظة* يحتوى الفول وغيره من العوامل على مواد ليس بإمكان خلايا الدم الحمراء الفقيرة بإنزيم G6PD التعامل معها

 

بكشف العلاقة بين الإنزيم والفول والمرض تم حل السؤال الذي حير المؤرخين والعلماء لقرون عِدة وهو: لماذا نهي فيثاغورث أتباعه وتلامذته من أكل الفول أو الاقتراب منه؟ وقد تسبب هذا الفول في قتل فيثاغورس في النهاية، ذلك أن معتقدات فيثاغورس الدينية كانت تُثير سخط بعض الناس، وذات يوم، كما يُقال وجده جمهور من الناس بمفرده في منزل أحد أتباعه فطاردوه وجرى فيثاغورس هارباً حتي وصل إلي طرف حقل للفول. فرفض أن يعبر الحقل ثابتاً على مبدئه فأدركه الناس وقطعوا عنقه ربما لو كان عبر لكان نجح في الفرار.

اختبار موتالسكي 

وبعد حوالي عامين من اكتشاف العلاقة بين فول الفافا الانيميا التكسيرية تمكن أرنو موتالسكي في جامعة واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية من إنشاء اختبار دم أُطلق عليه اختبار موتالسكي، بواسطته تمكن موتالسكي من قياس مستوى إنزيم G-6-PD من حيث الزيادة والنقصان. يُعتبر هذا الاختبار هو الأكثر دقة في تحديد هذا الإنزيم لدى الأفراد المستهدفين أي أن غياب الإنزيم أصبح أداة للتنبؤ، ويعتبر إشارة واضحة إلى أن المرض قد يحدث ذات يوم. وبدأ موتالسكي وسنيزكالكو في التعاون سوياً على إجراء عملية مسح للطلاب في مدارس سردينيا. فأخذا يزوران المدارس يومًا بعد يوم، يسحبان عينات الدم من مئات الأصابع، ويختبران العينات في معملهما في سردينيا وبالتدريج تم تحديد وحصر الطلاب الذين يملكون إنزيم G-6-PD والذين يغيب أو ينقص لديهم هذا الإنزيم وتم تحذيرهم من تناول فول الفافا او حتى ملامسته أو شم رحيق أزهاره المُعبأة بحبوب اللقاح أثناء فصل الربيع، ونتيجة هذا الاختبار قلت حالات الانيميا التكسيرية بين طلاب مدارس سردينيا وكذلك قل الوخم. 

في النهاية تم تطوير اختبار موتالسكي لاحقًا، كما أصبحنا نستطيع قياس الإنزيم بدقة عن ذي قبل. وأصبح من المعروف الآن تِبعًا لقواعد بيانات الأمراض الحالية أن هناك مائة مليون فرد حول العالم يعانون من نقص إنزيم G-6-PD  منهم ثلاثة ملايين أمريكي، وأن الإصابة بالأنيميا التكسيرية ليس فقط بسبب تناول فول الفافا، بل أيضاً عن طريق الإفراط في تناول مضادات الملاريا، ومركبات السلفا، والأسبرين، وفيتامين K.

بواسطة الجين الذي ينتج عن تعبيره إنزيم G-6-PD أصبحت لدينا علامة تنبؤ بالمستقبل، والآن بإمكان الأشخاص الأكثر عُرضة لهذا المرض الابتعاد عن مسبباته ومحاولة تجنبها كليًا. دائماً ما كان هناك أشكال بدائية من أشكال التنبؤ فمثلاً عند الإغريق القدامى عند ميلاد طفل منغولياً أو طفل ضئيل في الحجم عما هو طبيعي يعرفون أن مستقبله ميئوس منه، فكانوا يبادرون بالتخلص منه برميه من فوق جرف. في منتصف عام 1996 لاحظ مجموعة من علماء الكيمياء الألمان أن هناك علاقة وطيدة بين كيماويات بعينها وبين مرض سرطان المثانة في العاملين في مصانع الصبغات الكميائية. والأطباء منذ زمن طويل يعرفون أن إصابة أحد الوالدين بمرض السكري تزيد من احتمالية إصابة أحد الأطفال بالمرض أيضًا. وهناك أمثلة عديدة على أشكال التنبؤ الوراثي التي بواسطتها عرفنا شيئاً فشيئاً أنه من خلال الجينات يمكننا فهم المرض وآليات عمله. 

هكذا يمكننا الاعتماد أكثر فأكثر علي القصص التي ترويها لنا الجينات حتى نقرر كيف يمكننا أن نحافظ على الصحة العامة كبشر بأحسن السُبل الممكنة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share