إنها إحدى اللحظات الساحرة حين نحتضن الأم جسد صغيرها الذي خرج للحياة لتوه، لحظة يتوقف عندها الزمان، ويبقى أثرها لسنوات طوال وربما لآخر العمر. أول ما يخطر ببال الأمهات في هذه اللحظة هو الرضاعة الطبيعية، ومع التقام الصغير لثدي أمه، يبدأ الغذاء السحري في التدفق لملئ معدته الصغيرة باللبن، وجسده الدقيق بالطمأنينة والهدوء، ولكن ماذا لو لم يفلح الأمر!
اللبن الصناعي بديلًا للَّبن الأم
توصي منظمة الصحة العالمية بالرضاعة الطبيعية كأفضل خيار لتغذية الرضع، لما لها من فوائد تعد ولا تحصى، كالحماية من العدوى والوقاية من بعض الأمراض المزمنة ومنع الحساسية. كما توصي الجمعية الأمريكية لطب الأطفال بإرضاع الطفل حصريًا خلال الأشهر الستة الأولى، كما تنصح باستمرار الرضاعة الطبيعية بعد إدخال الطعام الصلب لمدةٍ لا تقل عن ستة أشهر أخرى.
في بعض الأحيان، قد لا تنجح تجربة الرضاعة الطبيعية لأسباب مختلفة، على رأسها شعور الأم بالألم كنتيجة لوضعية الرضاعة الخاطئة، أو فشل الرضيع في التقام الثدي بصورة صحيحة، أو عدم إنتاج الغدد اللبنية لكميات كافية من اللبن لإشباع الرضيع. لهذا وعلى اختلاف الأسباب، ظهر اللبن الصناعي كحل لتلك المشكلة المعقدة وبديل مُصنع للَّبن الأم.
في عام 1865، حصل الكيميائي "جاستس فون ليبيج" على براءة اختراع اللبن الصناعي، ليسوق بعدها لأول تركيبة صناعية من اللبن كبديل للبن الأم. جاء الاختراع في شكل سائل ثم تطور لمسحوق، بحيث يمكن حفظه بصورة أفضل. كانت تركيبة "ليبيج" المكونة من حليب البقر والقمح والشعير وبيكربونات البوتاسيوم بمثابة غذاء مثالي للرضع في هذا الوقت.
منذ ذلك الحين، تطورت تركيبات الألبان الصناعية بصورة كبيرة، وتنافست الشركات في دعم العلماء للوصول لأفضل تركيبة من حيث القيمة الغذائية وأقرب تركيبة للبن الأم، وذلك لتحقيق مكاسب مادية وتقليل الآثار الجانبية المحتملة للبن الصناعي على الرضع.
أخطار مُحتملة للبن الصناعي
مشروع إنتاج لبن الأم الصناعي
بالرغم من التطور العلمي المذهل في تقنيات إنتاج وتعديل اللبن الصناعي، إلا أن المقارنة بينه وبين لبن الأم لا تزل بعيدة، ما جعل البعض يتجه للتفكير في تصنيع لبن الأم معمليًا، في محاولة لتقديم الدعم للأمهات اللاتي لا يستطعن الرضاعة طبيعيًا، وتقديم بديل صحي يشبه إلى حد بعيد لبن الأم، مع تجنب المشكلات الصحية الناتجة عن اللبن الصناعي ذو المصدر الحيواني.
بدأت الفكرة عام 2009، بمعاناة شخصية لدكتورة "ليلى ستريكلاند" الباحثة في مجال البيولوجيا الجزيئية وزراعة الخلايا، عندما ولد طفلها مبتسرًا، فكان يعاني صعوبة في التقام الثدي، ما أثر بشكلٍ واضح على قدرة الغدد اللبنية على إنتاج كميات مناسبة من اللبن.
شعرت "ستريكلاند" وقتها بالإحباط، فسخرت جهودها على مدار سنوات، لبحث إمكانية زراعة خلايا الغدد اللبنية في المعمل، بهدف تحفيزها لإنتاج اللبن. الجدير بالذِكر أن الأمر لم يدخل حيز التنفيذ إلا بحلول عام 2019، عندما تعاونت "ستريكلاند" مع "ميشيل إيجر" عالمة الغذاء لتأسيس شركة "Biomilq" الناشئة.
شركة "بايو ميلك" الرائدة في مجالها
في مطلع عام 2020، استطاعت د/ ليلى إثبات إمكانية تحقيق فكرتها، عن طريق الحصول على منتج جزيئي معقد يحتوي على مكونات اللبن البشري من خلايا غدد لبنية مزروعة معمليًا، وبذلك أصبحت شركة "بايوميلك" رائدة في تلك الصناعة والأولى من نوعها في العالم.
انطلاقًا من هذا النجاح، بدأ سعي الشركة للحصول على تمويل ضخم يكفي لاستئناف هذا المشروع، وبالفعل تلقت الشركة الناشئة نحو 3.5 مليون دولار من صندوق استثماري شارك في تأسيسه عدد من أشهر رجال الأعمال في العالم، وعلى رأسهم "بيل جيتس" و "مارك زوكيربيرج".
بعد تلقي الدعم، استطاعت الشركة التوسع وإنشاء معمل خاص وتعيين عدد من الباحثين في مجال زراعة الخلايا والبيولوجية الجزيئية، وبحلول يونيو 2021، أعلنت الشركة نجاحها في إنتاج أول لبن بشري من نوعه في العالم من خلايا مزروعة خارج الثدي.
هل يعد بايو ميلك بديلًا للَّبن الأم؟
يُعد لبن الأم المرضعة أحد أكثر المواد التي يفرزها الجسم تعقيدًا، ليس فقط من ناحية التركيب ولكن أيضًا من حيث البنية الجزيئية، ما يجعل استنساخه معمليًا من المستحيلات، وذلك لأن لبن الأم يتغير بشكل دائم ووفقًا لاحتياجات الرضيع وعمره، كما يتأثر اللبن بالنظام الغذائي للأم، وبتعرضها لمسببات الأمراض المختلفة، فيختلف لبن نفس الأم عدة مرات على مدار سنوات الرضاعة.
تضع "بايوميلك" فرضية أساسية للعمل، وهي أن فوائد لبن الأم أكبر من مجموع أجزائه التي تعمل معًا في نظام ديناميكي، ولذلك اعتمدوا في إنتاج اللبن المصنع على تحقيق أكبر قدر ممكن من التعقيد، بتكرار العمليات المعقدة التي تحدث بين الخلايا التي تنتج اللبن، والظروف التي يمر بها داخل جسم الأم المرضعة.
تؤكد الشركة على نجاحها في إنتاج المغذيات الكبرى، التي تتطابق بشكل وثيق مع الأنواع والنسب المتوقعة من البروتينات والكربوهيدرات المعقدة والأحماض الدهنية وغيرها من الدهون النشطة بيولوجيًا؛ والمعروفة بتوافرها في لبن الأم.
حتى الآن، لا يمكن اعتبار اللبن البشري المصنع نسخة طبق الأصل من لبن الأم، ثم أن الشركة لا تطمح إلا في تقديم بديل أفضل من اللبن الصناعي للأمهات، وإتاحة خيار إضافي يمكن اللجوء إليه في بعض الحالات، التي قد ترغب في الحصول على فوائد الرضاعة الطبيعية مع عدم إمكانية الرضاعة.
وفقًا للشركة، فإن منتجهم يحتوي على مجموعة شاملة من بروتينات لبن الأم التي تدعم النمو المناعي للأطفال، وبذلك فإن المنتج يقدم أحد أهم فوائد اللبن الطبيعي، ويجمع بين التغذية السليمة للطفل وحمايته مستقبلًا.
على عكس تركيبات اللبن الصناعي، فإن منتج بيوميلك يحتوي أيضًا على الأحماض الدهنية المتعددة غير المشبعة، والمعروفة بخصائصها المضادة للالتهاب، ما يعزز النمو الصحي للطفل ويحافظ عليه.
تكثف الشركة حاليًا جهودها للحصول على موافقة الهيئات الصحية المعنية بالأمر وعلى رأسها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، ما يجعل المنتج متاحًا للاستخدام التجاري في خلال عامين من الآن، وفقًا لتصريحات مؤسسو الشركة، كما يعمل قسم التسويق في الشركة على تقديم سعر تنافسي، يسمح لمنتجهم بمنافسة تركيبات اللبن الصناعي عند طرحه بالأسواق.
في النهاية، ما زالت فكرة إنتاج لبن بشري مُصنع معمليًا في بدايتها، وعلى الرغم من الشواهد الجيدة التي نراها حتى الآن، إلا أن تحويل الفكرة لصناعة يمكن أن يخلق الكثير من العقبات التي تستلزم العمل لحلها، كما يعتقد البعض أن عملية الموافقة على طرح المنتج تجاريًا قد تكون أكثر تعقيدًا مما يتصور الباحثون في هذا المشروع.