مرت أيام قليلة على حدث نقل مومياوات 22 من أعظم ملوك وملكات مصر القديمة لمتحف الحضارة المصرية في موكب تاريخي تناولته الصحف، وتم بثه على ما يزيد عن 400 قناة عالمية، فلماذا يهتم الجميع؟ لماذا يوجد علم مختص بدراسة الحضارة المصرية القديمة دونًا عن بقية حضارات العالم القديم على عظمتها؟ ولماذا هذا الإقبال الشديد من دول العالم على تدريسه والاهتمام بتقديمه في المناهج الدراسية للأطفال في العديد منها، بل أنه ما من دولة أو جامعة بالقارة الأوروبية إلا وبها قسم علم المصريات، علاوة على الدورات المدفوعة التي ينهال عليها الكبار والصغار من كل حدب وصوب؟ ما السر الذي يجعل مصر فريدة من نوعها؟ في هذا المقال نخبركم..
التاريخ يبدأ في مصر - كيف ذلك؟
"مصر ليست دولة تاريخية؛ مصر جاءت أولًا ثم جاء التاريخ" إنها ليست جملة مجازية، فالحضارة المصرية القديمة هي الأولى والأقوى والأكثر تقدمًا ضمن حضارات العالم القديم كلها. قد يختلف البعض على ذلك، مثلًا -صموئيل كرامر - وهو باحث كبير في الحضارة السومرية - الذي أوجز في كتابه (يبدأ التاريخ في سومر) كل الأشياء التي تبدأ في سومر في رأيه، إلا أنه كان على خطأ؛ التاريخ لا يبدأ في سومر ولا في بلاد الأغريق ولا بابل، إنه حقًا يبدأ في مصر. كيف لا وقد كان لها السبق في التوصل لاختراع عظيم لم يكن من الممكن للعالم أن يتقدم بدونه - الكتابة - بل وبالرغم من أن معظم الكتابة الهيروغليفية نُقشت على الأحجار، إلا أن المصريين القدماء كانوا أيضًا أول من صنع الورق من نبات البردي.
يقول سامي حرك باحث المصريات في تصريح لساينتفك عرب: "اختص العالم كل ما يتعلق بالحضارة المصرية القديمة بعلم خاص بها (علم المصريات)؛ ذلك لأنها الحضارة الأساس، إنها أول دولة بمؤسسات مركزية في الوجود، ولأن معظم علوم الإنسان تبدأ من مصر. إذ أن المداخل لعلوم الهندسة والطب والفلك والأدب والرياضيات وغير ذلك، لا يمكن تأريخها بأبعد من تاريخ مصر نفسه، بالإضافة للثروة الأثرية الهائلة التي احتفظت بها مصر عشرات ومئات الأجيال، منحوتة على الصخور أو محفوظة في مقابر مُغلقة، وذلك لم يتوفر لمعظم الحضارات التالية إذ حُرقت آثار روما أكثر من مرة وغرقت آثار فينيقيا ولم يبق منها إلا القليل، وكذلك الآشورية والبابلية التي انتهبها الغزاة والمغيرين، فأصبح طريق الباحث في أي من تلك الحضارات ضيق ويقوم في أكثره على التخمين رغم أنها حضارات تالية للحضارة المصرية، في حين تميزت الحضارة المصرية بإمكانية متابعة الأحداث التاريخية أثريًا من زمن ما قبل الأسرات وحتى الآن."
هناك الكثير من الأشياء التي حدثت في مصر لأول مرة، وهذا ما يجعل مصر فريدة من نوعها. على سبيل المثال، لم يقم السومريون ولا أي من الحضارات ببناء صروح تضاهي أهرامات الجيزة، لم يقم السومريون ببناء المعابد المذهلة التي نراها قائمة لليوم، بل وإذا سألت الأغريق أو أصحاب أي حضارة قديمة أين تعلمت بناء معابدك؟ ستجدهم يجيبون: "تعلمنا أن نبني بالحجارة من المصريين." أول بناء من الحجر في تاريخ العالم بناء مصري. لم يتعلم ويبرع السومريون أو غيرهم في الطب كما فعل المصريون، هل تصدقون أنهم أول من ابتكر الأطراف الصناعية، وتقويم الأسنان؟ فقد استخدموا الأوتار لتنسيق الأسنان غير المتناسقة.
تعرف على المزيد عن الطب في مصر القديمة
هناك الكثير من الأشياء التي بدأت في الحضارة المصرية القديمة، هنا تحديدًا تكمن أهمية مصر. على سبيل المثال، الدين؛ يصاب معظم الناس بالصدمة عندما يعلمون أن التوحيد (الإيمان بإله واحد) قد قدمه الملك المصري القديم إخناتون لأول مرة. كذلك التحنيط؛ فالمصريون هم من أتقنوا علم التحنيط بحيث وقف العالم طويلًا يحاول التوصل لأسراره. والأساطير المصرية، لا أساطير في كل حضارات العالم غنية بقدر الأساطير المصرية، التي أجابت عن أسئلة تطرحها جميع المجتمعات (مثل ماذا يحدث بعد الموت؟ كيف خُلق العالم؟.. وغيرها مما لا يمكن تفسيره بشكل منطقي على الأقل حينها).
يكفي أن تعرف أن الحضارة اليونانية القديمة المعروفة بالحضارة الإغريقية الشهيرة، كانوا يعظمون الحضارة المصرية القديمة؛ فقد اتفق المؤرخون اليونانيون على أن الأغريق قد استمدوا حضارتهم من مصر. لقد أرادوا تتبع المصريين القدماء والسير على خطاهم، لذا، فمن الطبيعي أن يصلوا للساحة متأخرين مقارنةً بالمصريين. فالإلياذة والأوديسة مثلًا، لقد تم تأليفهم حوالي 900 قبل الميلاد، أي بعد بناء الأهرامات بألفي عام.
أهرامات الجيزة؛ أسرار بناء الصرح الأعظم في التاريخ
هناك قصة رائعة يرويها دكتور بوب براير عالم المصريات الشهير، تقول أنه عندما خطط اليونانيون لإقامة الأولمبياد، أرادوا معرفة كيفية جعلها عادلة خاصةً في وجود أجانب راغبين بالمشاركة في الأولمبياد، دون الانحياز لليونانيين؛ فأرسلوا لجنة إلى مصر لإيجاد الحل، نظرًا لحكمة المصريين في الفلسفة، لذلك أراد الإغريق تتبع كل شيء في مصر. لا يوجد شيء أو حضارة مثيلة لمصر.
أما عن الفن، فلا يوجد مثيل للفن المصري. قم بزيارة متاحف لحضارات أخرى ستجد تماثيل رائعة وتجسيد دقيق، ستجد أواني ذات زخارف بديعة، لكن ليس بقدر الفن المصري النابض بالحياة، هناك شيء مميز في الفن المصري الذي اهتم بأن يخبرك كل شئ عن حياة المصري القديم ومعتقداته ومعارفه وتاريخه، فتجد نفسك مبهورًا مسلوب الإرادة في الولع بهذا المجتمع بفلسفته نظاميته قوانينه إنسانيته تقدمه العلمي والفني السابق لأوانه. إن افتتاننا بمصر القديمة هو بنسبة كبيرة نتاج هذا الكم الهائل من المعلومات التي أتاحوها لنا من خلال اهتمامهم بتسجيل كل ما يخصهم، نحن نعرف الكثير عن الحياة اليومية للمصريين القدماء - يمكننا قراءة كلماتهم والتعرف على عائلاتهم وملوكهم، رؤية إنجازاتهم ملابسهم وحليهم وتذوق طعامهم وشرابهم ودخول مقابرهم، الذي جعلنا نعرفهم بحق، وربما نحبهم ونشعر برغبة في فهم ومعرفة المزيد.
شاهد أيضاً وظائف تخصص المعلوماتية الحيوية في مصر.