الصحة العقلية ومواقع التواصل الاجتماعي

وسائل التواصل الاجتماعي وصحتنا العقلية

وفقًا لهرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، يأتي الاحتياج الاجتماعي في المرتبة الثالثة بعد الاحتياجات الفسيولوجية، واحتياج الشعور بالأمان. فالإنسان كائن اجتماعي، يحتاج إلى تقبل وحب الآخرين والشعور بأنه جزء من مجتمع أكبر منه. 

أدرك الإنسان منذ فجر التاريخ قيمة الارتباط الاجتماعي وتأثيره على صحته النفسية والعقلية. يظهر ذلك في تنوع الوسائل التي حاول الإنسان القديم استخدامها للتواصل مع الآخرين، بداية من استخدام الدخان كإشارة للخطر أو تحديد نقطة تجمع، ثم قرع الطبول الذي ما زال سائدًا حتى الآن كوسيلة للتواصل في بعض القبائل، مثل قبيلة بوراس التي تعيش في الأمازون. 

كذلك تطورت طرق التواصل من الكتابة والرسم على الأحجار إلى استخدام الحمام الزاجل، ثم استخدام البريد الورقي، وصولًا إلى الشبكة العنكبوتية العالمية (World Wide Web) التي نشهدها حاليًا.

شفرة مورس

"صامويل مورس" رسام أمريكي اشتهر في القرن التاسع عشر، لتطويره وسيلة تواصل عُرفت ب"شفرة مورس" التي كانت حجر الأساس لتطوير الشبكة العنكبوتية العالمية فيما بعد.

تلقى "مورس" في ذات يوم رسالة بريدية من أبيه تخبره بأن زوجته مريضة، فسافر "مورس" إلى بلدته سريعًا لرؤية زوجته، ليجد أنها قد ماتت ودُفنت. حزن "مورس" بشدة لعدم قدرته على رؤية زوجته قبل دفنها؛ خاصة لعلمه أن تأخر وصول الرسالة البريدية التي تخبره بمرض زوجته هو السبب في ذلك. 

قرر "مورس" في ذلك الحين إيجاد طريقة سريعة لتوصيل الرسائل، بدلًا من البريد الورقي الذي كان سائدًا في ذلك الوقت. وعلى الرغم من بُعد مجال عمل "مورس" الفني عن عالم الاتصالات، إلّا أنه نجح في تطوير شفرته الخاصة المعروفة حتى الآن في الأوساط العلمية، ليصبح أول من أرسل رسالة إلكترونية من بالتيمور إلى واشنطن في عام 1844. 

تعتمد شفرة "مورس" على تحويل الإشارات الكهربائية إلى مقاطع صوتية يمكن فهمها، فالنقاط ترمز إلى مقاطع صوتية قصيرة، في حين ترمز الشرطات إلى مقاطع صوتية طويلة.

الجدير بالذكر أن "شفرة مورس" -على عكس الاعتقاد الشائع- لا تحتاج إلى أجهزة خاصة لفك نصوصها، بل صُممت ليستطيع الإنسان العادي فهمها دون الحاجة لأجهزة معقدة، وترجع تسميتها "شفرة" إلى الحاجة لمن يتقن فهمها وترجمة نصوصها إلى اللغة العادية.

تطور وسائل التواصل الاجتماعي

استمر تطور وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، لدرجة التأثير على نمط حياتنا اليومي، فبلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في عام 2020 وفقًا للإحصاءات أكثر من 3.6 مليار شخص حول العالم. وبدأت تظهر المزيد من المنصات الجديدة التي تستهدف فئات أكثر من المجتمع في السنوات الأخيرة. 

مراحل تطور وسائل التواصل الاجتماعي

بحكم انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في حياتنا اليومية، عني العديد من الباحثين بدراسة تأثيرها على الصحة العقلية للمستخدم.  

يشير مصطلح الصحة العقلية إلى حالة مدى الرفاهية العقلية والسلوكية والعاطفية التي يتمتع بها الفرد، فتؤثر في طريقة التفكير والتصرف مع مواقف الحياة المختلفة، وما يتضمنها من ضغوطات، ما يعني أن التمتع بالصحة العقلية لا يعني فقط الخلو من الأمراض العقلية المختلفة، ولكن يمتد إلى التمتع بصحة عقلية جيدة. 

وفي حين تنفي بعض الدراسات ارتباط الوقت الذي يقضيه الفرد في تصفح منصات التواصل الاجتماعي، برفع احتمالية الإصابة بالأمراض العقلية، تشير دراسات أخرى إلى أن الحد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، يقلل من خطر الإصابة بالاكتئاب والشعور بالوحدة. 

على كلِِ، تظل هناك العديد من الأمور التي لا يمكن إغفالها بشأن اعتمادنا اليومي على وسائل التواصل الاجتماعي، ولعل أبرز تلك الأمور:

الخوف من فوات الشيء (Fear Of Missing Out)

حالة من القلق والإثارة التي تجعل الفرد دائم الرغبة في تفقد وسائل التواصل الاجتماعي،لا بدافع ما سيكسبه من وراء ذلك، بل خشية أن يفوته المشاركة في حدث ما، الأمر الذي يدفع الفرد لإهمال جوانب حياته الأخرى. 

إن الخروج من تلك الحالة يتطلب إدراك أنه من الطبيعي والصحي تمامًا -في بعض الأحيان- التخلي عن بعض الأشياء في سبيل تحقيق فائدة أخرى.

 فعلى سبيل المثال، لا يمكنك الذهاب في رحلة مدهشة سوى بالتخلي عن الاستقرار والراحة في منزلك لبضعة أيام، فلا يشغلك التفكير حينها ب"تفويت" الراحة التي كنت ستنعم بها في المنزل، بل تستمتع بالتجربة الفريدة التي تخوضها.

اقرأ أيضاً:  دليل المتسلق لجبال العرب

تسليط الضوء على اللحظات الأفضل (Highlight Reel)

إن وسائل الإعلام الاجتماعية زاخرة بأفضل ما في كل شيء؛ أفضل الصور الشخصية، وأفضل المقاطع المرحة، وأفضل زوايا الأمور. تضع وسائل التواصل الاجتماعي -دون قصد- معايير للجسم المثالي ومقاييس لليوم المثالي؛ حتى إذا لم يفِ الفرد بتلك المعايير، يبدأ في النظر إلى نفسه وحياته بشكل سلبي. يكمن السر في تخطي ذلك الشعور بإدراك الفرد للحقيقة، وعدم مقارنة النفس بالصور المنتقاة بعناية لتظهر بأفضل هيئة. 

العملة الاجتماعية (Social Currency)

إن التنافس المستمر للحصول على أكبر عدد من "الإعجابات والتعليقات" على منصات التواصل الاجتماعي يجعل المرء يغفل أنه بذلك يعطي الآخرين الحق في "تحديد قيمته". إن كثرة الإعجابات والتعليقات -بلا شك- تعطيك شعورًا جيدًا؛ حيث تثير استجابة الدوبامين المسؤول عن الإحساس بالسعادة، لكن على النقيض، فعندما لا يحصل المرء على عدد الإعجابات الذي كان يطمح إليه، فإن ذلك يشعره تلقائيًا  بالرفض ممن حوله، لتبدأ تلك الدائرة المفرغة التي تنتهي بالتأثير السلبي على الصحة العقلية. 

المضايقات عبر الانترنت (Online Harassment)

وفقًا لمنظمة اليونيسيف، فالتنمر الإلكتروني سلوك متكرر نشهده بشكل كبير في وقتنا الحالي، يُراد به تخويف الأفراد المستهدفين أو إثارة غضبهم أو التشهير بهم. ولعل أبرز صور المضايقات التي تتم عبر الانترنت:

  • نشر صور محرجة أو معلومات خاصة عن شخص ما على وسائل التواصل الاجتماعي.
  • إرسال التهديدات عبر منصات التراسل.
  • انتحال الشخصيات.
  • ابتزاز شخص ما برسائل أو صور أو مقاطع مسيئة. 

وسائل التواصل الاجتماعي وجائحة كورونا

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن جائحة كورونا التي نشهدها حاليًا أظهرت كيف تمثل وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات الرقمية تهديدًا للصحة العالمية العامة بقدر ما يمثل فيروس كورونا نفسه، وذلك عن طريق المعلومات المضللة التي يتداولها مستخدمو هذه المنصات.

فعلى قدر ما تتيح المنصات الرقمية فرصًا لتوعية المستخدمين بطرق الوقاية وتزويدهم بالمعلومات والأخبار، إلّا أنها على الجانب الآخر تساعد في نشر المعلومات المغلوطة، كما تشكك في التدابير الوقائية العالمية للسيطرة على الوباء؛ ما يدفع العديد من الناس لعدم الالتزام بها وتعريض حياتهم للخطر.

ومن أجل فهم أفضل لكيفية تعامل الشباب البالغين مع التكنولوجيا خلال جائحة كورونا، أُجريت دراسة دولية بالتعاون بين منظمة الصحة العالمية وجامعة ملبورن وشركة وندرمان طومسون وموقع بولفيش (PollFish) للاستبيانات وجمع المعلومات. شملت تلك الدراسة أكثر من 23,000 مشارك، تتراوح أعمارهم بين 18-40 عاما، من 24 بلدًا مختلفة.

كشفت تلك الدراسة عدة محاور رئيسية، توضح المصادر التي يتزود منها الشباب بالمعلومات المتعلقة بشأن وباء كورونا، كما توضح مدى الوعي بالأخبار المضللة وطريقة تعاملهم معها والمخاوف التي تواجههم بهذا الشأن. ولعل أبرز تلك المحاور هي:

المحتوى العلمي جدير بالمشاركة

عندما سُئل المشاركين في الدراسة عن طبيعة المعلومات المتعلقة بشأن جائحة كورونا التي يفضلون نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، أفاد 43.9% من إجمالي المشاركين أنهم يفضلون نشر المحتوى "العلمي" على صفحاتهم الخاصة على منصات التواصل.

إدراك خطأ المعلومات

أفاد أكثر من 59.1% من المشاركين في الدراسة بأنهم على أتم العلم بالمعلومات المضللة التي تنتشر "كالنار في الهشيم" على المنصات الرقمية، لكن يكمن التحدي -على حد قولهم- في كيفية مواجهتها ووقف انتشارها. 

في حين صرح 35.1% من المشاركين بعدم مبالاتهم بصحة الأخبار المنشورة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. 

مخاوف أكثر من الإصابة بكورونا

عندما سئل المشاركون عن أكثر المخاوف التي يواجهونها عند متابعة أخبار الوباء على المنصات الرقمية، صرح أكثر من 55.5% من المشاركين بأنهم لا يخافون إصابتهم، إنما يخافون إصابة أحد أفراد أسرتهم أو أصدقائهم، ليأتي في المرتبة التالية تصريح 53.8% من المشاركين بمخاوفهم من انهيار الاقتصاد العالمي.

أخيرًا، إن وسائل التواصل الاجتماعي -بلا شك- تؤثر بشكل كبير في نمط حياتنا اليومي، لكن يكمن التحدي في تسخير تلك التكنولوجيا لخدمتنا وتزويدنا بالمعلومات والخبرات، دون التأثير على صحتنا العقلية بالسلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share