في أعماق الفضاء السحيق، يحوي قلب المجرات مقبرة عظيمة تحمل بداخلها الغموض، ثقبًا أسودًا تمرد على قوانين الفيزياء وصنع لغزًا تهافت العلماء منذ قرون على وضع قوانين تحدد ماهيته.
وفي حين أن الثقب الأسود نفسه عبارة عن مستنقع فلكي غير مرئي لا يمكن للضوء أو أي مادة النجاة منه، إلا أن جهود علماء الفلك الأخيرة نجحت أن تأخذنا إلى عتبة الثقب الأسود لأول مرة، ليس هذا فقط؛ بل وتصويره أيضًا!
يقول «شبرد دويلمان - Sheperd Doeleman» مدير مشروع «تلسكوب أفق الحدث - Event Horizon Telescope»، وباحث بجامعة هارفارد:
الثقوب السوداء هي أكثر الأشياء غموضًا في الكون. لقد رأينا ما اعتقدنا أنه غير مرئي؛ والتقطنا صورة لثقبٍ أسود!
ما هو الثقب الأسود؟
عندما يتهاوى أحد النجوم؛ فإنه يفقد طاقته ويسقط على نفسه مكونًا لذاته مقبرة سحيقة، وتكون المحصلة ثقبًا أسودًا تزداد كثافته وقوة جاذبيته بشدة ينثني عندها نسيج الكون «الزمكان - Space-Time»، ويفقد الزمن استقامته، حتى يبتلع كل شيء يقترب منه، من خلال عبوره بسرعة أسرع من سرعة الضوء من خلال حلقة تُحيط بالقب الأسود تسمى «أفق الحدث - Event Horizon».
أفق الحدث هي المنطقة الفاصلة بين داخل الثقب وخارجه، وهي دائمًا مضيئة بخلاف الجزء الداخلي للثقب الأسود بسبب أن المكونات من الغاز والغبار النجمي لم يسقط أو يعبر إلى قلب الثقب الأسود، بل بقي عالقًا هناك يدور في هذه المنطقة مشكلًا ما يشبه القرص. يمكننا رؤية هذا القرص، لأن جزيئات الغاز والغبار تتسارع إلى سرعات هائلة بسبب الجاذبية الهائلة للثقب الأسود، وتطلق الحرارة والأشعة السينية القوية، وأشعة جاما في الكون بسبب اصطدامها ببعضها البعض.
الجاذبية في النسبية
في عام 1916 توصل «ألبرت أينشتاين» إلى نظرية النسبية العامة التي تصادمت مع معادلات نيوتن، لتثبت عدم اتساق تلك المعادلات مع بعض القوانين التي تتنبأ بما لا يشابه ما يحدث فعليًا عن حركة كوكب عطارد؛ لتنجح النسبية في شرح الجاذبية بشكل كامل، وتوضيح معناها الذي لا يتوقف عند جسمين ينجذب أحدهما للآخر، إنما يتمثل في جسم ثقيل استقر في قلب نسيج الكون -التي يكونها عنصري الزمان والمكان-.
يتحرك هذا النسيج لأسفل كلما سقط عليه جسم ثقيل، فيقوم بثني هذا النسيج فيتبع الجسم الذي يسقط بعده مسار هذا الإنثناء الحادث في النسيج؛ مما يعني أن الأجسام لا تجتذب لبعضها البعض، لكنها تسير مع انحناءات الشبكة (تموّجات نسيج الزمكان) التي يطلق عليها اسم «موجات الجاذبية - Gravitational wave»، وهنا يكتشف اينشتاين أن الوقت فقد استقامته!
أي كلما كانت الجاذيية أقوى، كلما انثنت شبكة الزمكان وتمددت ليصبح الوقت أطول، و كلما كانت الجاذبية أقل، كلما كان الوقت أقصر. لذا، وبناءًا على النسبية العامة لأينشتاين فإن الوقت يمر على القمر أسرع من الأرض لأن جاذبية القمر أقل من جاذبية الأرض، وهكذا.
ما رأيك بمغامرة عن قرب ؟
تخيل أنك تدخل ثقبًا أسودًا وحدك بعد أن قرر صديقك التراجع في آخر ثانية وفضّل مراقبتك عن بعد؛ أنت تتقدم في الطريق، وهو يراك تتمدد ببطء إلى أن تتبخر في النهاية، فيعتقد الآن أنك ميت وربما يسعد بأنه اتخذ قراره بألا يرافقك.
لكن انتظر .. هذه ليست نهاية القصة، في الواقع أنت ما زلت على قيد الحياة وبصحة جيدة، لكنك تغامر بلا نهاية عبر الثقب الأسود بغض النظر عما يحدث لك بالفعل في هذه المرحلة، فما يثير الاهتمام حقًا هو حقيقة أنك لا تزال على قيد الحياة، رغم أن صديقك قد رآك تموت لتوه!
هنا ظهر التضارب بين ميكانيكا الكم والنسبية لأينشتاين
يعود هذا التناقض الذي أثار جدلاً أوليًا حول مصير معلومات المادة التي ابتلعها الثقب الأسود إلى عام 1975، عندما اكتشف الفيزيائي وعالم الكونيات «ستيفن هوكينج» أن هناك إشعاعًا ينبعث من الثقوب السوداء بشكل عشوائي، أطلق عليه «إشعاع هوكينج - Hawking Radiation». هذا يعني أن بإمكان شيء ما الإفلات من الثقب الأسود.
بمرور الوقت، يستهلك هذا الإشعاع الثقب الأسود ذاته، ليتسبب في تبخيره واختفاؤه تمامًا، بما في ذلك ما يحويه من معلومات أو أشياء قد ابتلعها الثقب الأسود.
إنه ليس وهمًا، ولم تفقد أنت أو صديقك العقل، إنها ببساطة قوانين الفيزياء التي تجعلك ميت خارج الثقب الأسود وحيًا ترزق بداخله، ومن المؤسف أنه بمرور الوقت ستتلاشي أنت أيضًا داخل هذا الثقب بعد أن يمر بدورته من الاستهلاك الإشعاعي.
آلية تصوير الثقب الأسود
قبل العاشر من أبريل/ نيسان 2019 لم يكن ذلك ممكنًا، لكن بواسطة «تلسكوب أفق الحدث - Event Horizon Telescope»، تمكن علماء الفلك أخيرًا من التقاط أول صورة حقيقية لثقب أسود، وذلك في حدث عظيم يضم أكثر من مائتي عالِم.
تلسكوب أفق الحدث هو تعاون دولي بين 8 تلسكوبات لاسلكية راديوية تقع في مناطق مختلفة من العالم، تمتد من القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) إلى إسبانيا وشيلي. تم تصوير الثقب في مجموعة SgrA* اللامعة في مركز مجرتنا درب التبانة، ومجرة ميسييه M87 في كوكبة العذراء، والتي تبعد عنا 55 مليون سنة ضوئية، عن طريق تحديد موضع «أفق الحدث - Event Horizon» للثقب الأسود في هاتان المنطقتان، والتي تتلاشى بعدها جميع القوانين الفيزيائية المعروفة. الأمر الذي يبشر بثورة جديدة في فهمنا لأشياء أكثر غموضًا في الكون.
تفاصيل صورة الثقب الأسود
تعطي الصورة لمحة مباشرة لقرص الثقب الأسود، وهو يظهر في شكل حلقة من الغازات والغبار، حيث التقط تلسكوب أفق الحدث الإشعاعات المنبعثة من الجزيئات داخل القرص، والتي يتم تسخينها بمليارات من درجات الحرارة أثناء دورانها حول الثقب الأسود بسرعة أقرب لسرعة الضوء، وذلك قبل أن تختفي أسفل الثقوب.
تظهر هالة الثقب المصورة هلالية الشكل، وذلك لأن الجسيمات الموجودة في جانب القرص الذي يدور باتجاه الأرض تتدحرج نحونا بشكل أسرع، وبالتالي تبدو أكثر إشراقًا من تلك الموجودة في الجانب المقابل، أما عن الظل الداكن فهو داخل حدود أفق الحدث -نقطة اللاعودة- حيث لا يمكن لأي ضوء أو أي مادة أن تسافر بسرعة كافية للهروب منها.
أضافت «فرانس كوردوفا» مديرة المؤسسة الوطنية للعلوم الأمريكية وخبيرة الفيزياء الفلكية أن الصورة التي لم ترها إلا أثناء الكشف عنها في المؤتمر الصحفي الذي كانت ترأسه، جعلت عينيها تمتلئ بالدموع، وقالت:
لقد درسنا الثقوب السوداء لفترة طويلة حتى أنه من السهل في بعض الأحيان أن ننسى أن أحدًا منا لم يرها.. سوف يترك هذا بصمة في ذكريات الناس.
وهكذا يستمر العلم في تقديم الأدلة والبراهين الواضحة على أعظم النظريات المطروحة ليثبت بها عبقرية العقل البشري في كشف أسرار الكون؛ في البداية يتنبأ أينشتاين بالثقوب السوداء ويبرهن بالشكل النظري والمعادلات الرياضية على وجودها، ثم ينجح ستيفن هوكينج في إثبات أن الثقوب السوداء يمكن أن يفلت منها الإشعاع مستعينًا بقوانين ميكانيكا الكم وقوانين الديناميكا الحرارية، وبالأخير تُفتح أبواب التبصير أمام العلماء في مختلف العصور، يضع كل منهم بصمة علمية جديدة مثبتة تضيف التنوير إلى البشرية من جديد.