في أواخر ثلاثينيات القرن قبل الماضي وتحديدًا عام 1839، قام أحد العلماء بابتكار طريقة يتبعها العالم أجمع في وقتنا الحالي، وكانت بمثابة نجدةٍ للمكفوفين؛ ألا وهي طريقة "برايل" التي تُمكن المكفوفين من القراءة وممارسة حياتهم بطريقة شبه طبيعية حيث يمكنهم ذلك من التواصل بدون عائق -وإن كانت بدائية- إلا أننا الآن تقدمنا بحيث وصلنا إلي أبعد مما كنا نتخيل، فهل يمكننا أن نهب مرضى الصرع والشلل الدماغي طريقة للتواصل؟
30 يوليو 2019، قام علماء الأعصاب في جامعة كاليفورنيا - سان فرانسيسكو “UCSF” بنشر ورقة بحثية بدورية "نيتشر" “Nature Communications”، قاموا خلالها باختراق أدمغة بعض المرضى المصابين بالصرع، على أمل إنشاء طريقة تسمح للأشخاص المصابين بالإعاقات الشديدة كالصرع وشلل الوجه بالتواصل بشكل أكثر مرونة باستخدام أجهزة تلتقط حركات العين وتشنجات العضلات للتحكم في لوحة مفاتيح إفتراضية تعمل على ترجمة تلك الإشارات إلى جمل مكتوبة في مشروع بحثي يهدف إلى تحسين تواصل المرضى الذين يعانون من تلك الإعاقات في المستقبل.
هذا الابتكار هو الأول من نوعه، والذي يوضح كيف يمكن رصد نية قول كلمات محددة من نشاط الدماغ وتحويلها إلى نص بسرعة كافية لمواكبة المحادثات الطبيعية، كما يمكنه فك شفرة الكلام عند الاستماع والتحدث معًا وليس بشكل منفصل على عكس الدراسات السابقة. يعمل برنامج قراءة الدماغ بشكله الحالي فقط على بعض الجمل التي تم تدريبه عليها، لكن يعتقد العلماء أنها نقطة انطلاق نحو نظام أكثر قوة يمكنه فك شفرة الكلمات التي ينوي الشخص أن يقولها في الوقت الفعلي، وقال "إدوارد تشانغ"، وهو جراح أعصاب والباحث الرئيسي في الدراسة الحالية: لا يوجد حتى الآن نظام لتعويض النطق يسمح للمستخدمين بإجراء تفاعلات على النطاق الزمني السريع للمحادثة الإنسانية.
نتائج مذهلة
بتمويل من "فيسبوك" كان ثلاثة مرضى يعانون من الصرع على وشك إجراء عملية جراحية في الجهاز العصبي لعلاج حالتهم. وقبل المضي قدمًا في عملياتهم، وُضع لدى الثلاثة مجموعة صغيرة من الأقطاب الكهربائية المتصلة مباشرةً على سطح الدماغ لمدة أسبوع على الأقل لتحليل نوباتهم، وأثناء إقامتهم في المستشفى، وافق المرضى - بينما يتحدث جميعهم بشكل طبيعي- على المشاركة في أبحاث تشانغ، الذي سارع باستخدم الأقطاب الكهربائية لتسجيل نشاط الدماغ عند سؤال كل مريض 9 أسئلة وطلب منهم قراءة قائمة من الردود المحتملة.
باستخدام هذه التسجيلات؛ صمم تشانغ وفريقه نماذج أجهزة الكمبيوتر التي تعلمت التطابق مع أنماط معينة من نشاط الدماغ ومع الأسئلة التي سمعها المرضى والإجابات التي تحدثوا بها، وبمجرد التدرب يمكن للبرنامج أن يحدد على الفور -من إشارات الدماغ وحدها- السؤال الذي سمعه المريض وما هي الاستجابة التي قدمها، بدقة عالية تصل إلى 76%.
قال ديفيد موسى، أحد الباحثين المشاركين فى الدراسة: "هذه هي المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا النهج لتحديد الكلمات والعبارات المنطوقة"، وأضاف: "من المهم أن نأخذ في الاعتبار أننا حققنا هذا باستخدام إمكانات محدودة للغاية، ولكن في الدراسات المستقبلية نأمل زيادة مرونة وكذلك دقة ما يمكننا ترجمته."
وعلى الرغم من أن النظام بدائي، فقد سمح للمرضى بالإجابة على الأسئلة المتعلقة بالموسيقى التي أحبوها، وكيف كان شعورهم سواء كانت غرفتهم حارة أو باردة، مشرقة أو شديدة الظلام.
قراءة الكلام المُتخيل
على الرغم من التمكن من هذه التقنية، إلا أنه لازالت تواجهنا العديد من التحديات، والتي يتمثل إحداها في تحسين البرنامج بحيث يمكنه ترجمة إشارات الدماغ إلى خطاب أكثر تنوعًا، بينما يتطلب ذلك خوارزميات مُدربة على قدر كبير من تعبيرات اللغة المنطوقة وبيانات لإشارات أدمغة المرضى، والتي قد تختلف من مريض لآخر. ثانيًا، قراءة "الكلام المُتخيل" أو الجمل المنطوقة عقليًا، في الوقت الحالي يكتشف النظام إشارات الدماغ التي يتم إرسالها لتحريك الشفاه واللسان والفك والحنجرة - بمعنى آخر، آلية الكلام - لكن بالنسبة لبعض المرضى الذين يعانون من أمراض الخَرَف العصبي كالزهايمر، قد لا تكون هذه الإشارات كافية، وستكون هناك حاجة إلى طرق أكثر تطورًا لقراءة إشاراتهم.
في حين أن العمل لا يزال في بدايته، قال "وينستون شيونغ" أخصائي علم الأعصاب في UCSF -والذي لم يشارك في هذه الدراسة-: من المهم مناقشة القضايا الأخلاقية التي قد تثيرها هذه الأنظمة في المستقبل. على سبيل المثال، هل يمكن لهذا النظام أن يكشف عن غير قصد الأفكار الخاصة للناس؟
ويضيف "تشانج" إن فك تشفير ما يحاول شخص ما أن يقوله كان صعبًا بما فيه الكفاية، واستخراج أفكاره الداخلية كان مستحيلًا تقريبًا، وقال أيضًا "ليس لديّ أي مصلحة في تطوير تقنية لمعرفة ما يفكر فيه الناس، حتى لو كان ذلك ممكنًا، لكن إذا أراد شخص ما التواصل ولا يمكنه ذلك، أعتقد أن لدينا مسؤولية كعلماء وأطباء لاستعادة تلك القدرة الإنسانية الأساسية"
هنا تُثبت التكنولوجيا أننا نقف علي أعتاب تطور علمي لم يعرفه العالم من قبل، ربما يستطيع حل كل المشاكل التى نتخيلها أو حتى تلك التى لا نستطيع تخيلها.