عام 2009، صدر فيلم "Hachiko: A dog's tale" المأخوذ عن قصة حقيقة حدثت في اليابان، لتجسد أسمى معاني الوفاء والحب بين الكلب هاتشي وصديقه. تدور أحداث الفيلم حول الأستاذ الجامعي الذي يجد جروًا صغيرًا، فيقرر اصطحابه معه لمنزله، لتتطور علاقتهما وتتكون لديهما عادة لا تنقطع على مدار سنوات، فيصحب الكلب صديقه من وإلى محطة القطار أثناء ذهابه وعودته من عمله يوميًا.
في أحد الأيام يذهب الكلب "هاتشي" إلى محطة القطار لانتظار صديقه الأستاذ الجامعي ولكن دون جدوى، فيذهب في اليوم التالي واليوم الذي يليه ولمدة عشر سنوات كاملة، يذهب الكلب إلى محطة القطار مرتين يوميًا وينتظر صديقه، الذي لا يعلم أنه في ذلك اليوم الذي تغيب فيه، كان قد أصيب بنزيف دماغي في أثناء عمله وتوفي على أثر تلك الأزمة الصحية.
ظل الكلب هاتشي أسطورة للوفاء والإخلاص، بانتظاره لصديقه لمدة 10 سنوات متواصلة حتى وفاته، لتخلد الحكومة اليابانية ذكراه بإقامة تمثال له بمحطة القطار، تقديرًا لهذا الصديق الوفي الذي لم يفقد أمله أبدًا في عودة صديقه بالرغم من طول الغياب.
قصة هاتشي ليست القصة الوحيدة التي تعبر عن علاقة الصداقة الاستثنائية بين الكلاب والبشر، فعلى مدار آلاف السنين، استطاعت الكلاب اكتساب محبة البشر وتقديرهم، ولكن كيف استطاع هذا الكائن الذي يشترك في الأصل مع الذئاب آكلة اللحوم، أن يصبح حيوانًا أليفًا، يشارك البشر منازلهم ويحتل قلوبهم ويكتسب ثقتهم كأوفى صديق على الإطلاق؟
كيف بدأت العلاقة بين الكلاب والبشر؟
إن توقيت وأسباب استئناس الكلاب غير مؤكد بصورة قاطعة، ولكن تشير الدلائل الجينية إلى أن الكلاب انفصلت عن أسلافها من الذئاب بين 27 : 40 ألف سنة مضت، ويرجع تاريخ دفن أقدم الكلاب إلى أكثر من 14 ألف سنة، ما يشير إلى أن الكلاب أصبحت حيوانات أليفة بحلول ذلك الوقت تقريبًا.
كذلك حتى الآن لم يُعرف على وجه التحديد المكان الذي بدأ فيه استئناس الكلاب، هل كان في أوروبا أو آسيا أم أنه بدأ في مناطق متفرقة حول العالم. تُعد الكلاب هي الحيوان الوحيد المستأنس من قبل الصيادين، فباقي الحيوانات المعروفة لم يسأنسها البشر إلا بعد انتشار الزراعة، ولذلك يعتقد الكثيرون أن الصيادون عمدوا لاستئناس الكلاب لتساعدهم في مهام الصيد.
تطور العلاقة بين البشر والكلاب
يعتقد الكثيرون من مربي الكلاب أن هناك علاقة خاصة بينهم وبين حيواناتهم الأليفة، فالنباح ونظرات العيون وغيرها من تعبيرات الوجه التي تتميز بها الكلاب، تجعل أصحابها متعلقون بها للغاية، فمن يمكنه أن يرفض اللعب أو الخروج مع كلبه، إذا ما أعطاه الكلب هذه النظرة المتوسلة التي لا تقاوم؟ من هنا بدأ العديد من العلماء البحث عن إجابة لتفسير هذه النظرة وتأثيرها على البشر.
أشار بحث نشر عام 2017، عن تأثير استئناس البشر للكلاب على تعابير وجوهها، إلى أن الكلاب تستخدم تعابير الوجه في حالة تواجدهم بالقرب من البشر، أكثر من استخدامها في حالة تواجدهم بمفردهم أو مع كلاب أخرى، بل وتستخدم هذه التعابير كأداة تواصل مع البشر للتعبير عن المشاعر.
شملت هذه الدراسة 24 كلبًا أليفًا تتراوح أعمارهم بين عام و12 عام، حيث بقيت الكلاب على بعد متر من شخص، ثم استخدم الباحثون أداة علمية لتحليل تعابير وجه الكلاب في حالة وجود طعام وفي حالة غيابه، وكذلك في حالة مواجهة الشخص، وفي حالة إدارة الظهر للكلب، ليجدوا أن الكلاب لم تظهر تعابير وجه مختلفة في حالة وجود الطعام وغيابه، ولكنها أظهرت التعابير بوضوح عند مواجهة الشخص.
كذلك أشار الباحثون في الدراسة إلى أن الكلاب يمكنها أن تستشعر المشاعر البشرية وتستجيب لها، حيث أظهرت الدراسة استخدام الكلاب لتعبير الوجه الحزين عندما يوبخهم البشر، ولكن لم يكن لذلك علاقة تذكر بمشاعر الكلب نفسه، بل هو سلوك مكتسب، لاشعار البشر بالخضوع استجابة للغضب.
كذلك، أوضح الباحثون أن استخدام الكلاب لهذا التعبير المتوسل كان أكثر تعبيرات الوجه شيوعًا التي سجلها فريق البحث، وهو تعبير يميل إلى إثارة التعاطف لدى البشر، ما يؤيد الاعتقاد بأن الكلاب طورت تعابير الوجه بسبب استئناس البشر لهم على مدار آلاف السنين.
كيف تأثرت الكلاب بتفضيلات البشر؟
في بحث أجرته جامعة بوتسموث لمعرفة أسباب اتقان الكلاب لهذه النظرات وتعابير الوجه، أتضح أن استجابتنا لنظرات الحب والتوسل التي نراها على وجوه الكلاب، ربما تكون هي السبب الرئيسي في تعمد الكلاب النظر بهذه الطريقة.
اعتمد هذا البحث على مقارنة تشريحية بين عضلات وجه وحاجبي الكلاب والذئاب، نظرًا لأنهما تطورا من سلف مشترك، وبذلك يمكن أن تكشف المقارنة عن أثر آلاف السنوات من الاستئناس على الكلاب، حيث أوضح البحث أن العضلات التي تسمح برفع الحاجبين، لم تتعد كونها مجموعة صغيرة وغير منتظمة من الألياف العضلية لدى الذئاب، على عكس حالها في الكلاب.
وفقًا لـ"جوليان كامينسكي" أستاذة علم النفس السلوكي بجامعة بوتسموث، فإن نتائج البحث تشير إلى أن الحواجب التعبيرية في الكلاب قد تكون نتيجة لتفضيلات الإنسان اللاواعية، التي أثرت على اختياراته للكلاب في أثناء عملية الاستئناس الأولى، بحيث فضّل الإنسان الكلاب التي تتمتع بهذه القدرة على غيرها من الكلاب أو الذئاب التي كانت تعيش في بيئته.
على الناحية العاطفية، حينما تستخدم الكلاب تعابير الوجه ونظرات العيون المميزة، فإنها تثير رغبة قوية لدى البشر لرعايتهم والاهتمام بهم، ما يمنح الكلاب التي تستطيع تحريك عضلات وجهها والتحكم في عيونها ميزة تطورية عن الآخرين، وعليه تتعزز هذه السمة بصورة تسمح بانتقالها للأجيال القادمة كميزة تطورية مهمة.
تأثير البشر على الكلاب سلوكيًا
إن التطور التشريحي العضلي يُعد بطيئًا للغاية، ما يجعل الأمر يتطلب عشرات الآلاف من السنين، قبل الوصول إلى هذا الفرق الواضح بين شكل وبنية العضلات لدى الكلاب والذئاب، ولذلك يعتقد الباحثون أن الاختلاف بين تشريح عضلات وجه الكلاب والذئاب لم يكن من باب التطور الطبيعي لنوعين منفصلين لهما نفس السلف المشترك، ولكنه تطور مدفوع بالتأثير الإيجابي لتعابير وجه الكلاب، على طريقة تفاعل البشر معها.
عمدت الدراسة أيضًا إلى بحث سلوك الذئاب والكلاب في ظل حضور البشر، حيث عرض الباحثون هذه الحيوانات لأشخاص مختلفين ولمدة دقيقتين، فلاحظوا أن الكلاب رفعت حواجبها بصورة أكبر وأكثر كثافة من الذئاب، ما يؤكد أن الكلاب تعرف جيدًا أن هذا السلوك يؤثر في البشر ويجعلهم أقدر على التواصل معهم.
كذلك، فإن حركة الحاجب تجعل عيون الكلاب تبدو أكبر وأكثر استدارة، ما يعطي مظهر طفولي بريء، يجعلنا كبشر -دون أن نشعر- نرغب في الاهتمام بهذه الكائنات الجميلة، كما أن للكلاب قدرة على محاكاة تعابير الوجه الحزينة لدى البشر بفضل تطور عضلات الوجه لديها، ما يسمح لها بجذب انتباهنا وتعاطفنا، نظرًا لمدى أهمية تعابير الوجه لنا كبشر، ومدى تأثرنا بها كوسيلة للتفاعل الاجتماعي مع الآخرين.
النباح كطريقة للتواصل مع البشر
تتمتع الكلاب بعدد من العضلات سريعة الارتعاش حول الفم، وهي عضلات ملائمة للحركات القصيرة والحادة، ولذلك فهي متطورة بشكل يسمح للكلاب بالنباح، الذي هو أحد أدوات الكلاب للتواصل مع البشر، حيث إن الكلاب تستخدم النباح كطريقة للتعبير عن السعادة والمرح، وكذلك لحماية أصحابها من التهديد أو التحذير من المتسللين لمكان المعيشة وتنبيه سكان البيت إلى ذلك.
على النقيض، تميل الذئاب إلى العواء بدلًا من النباح، وهي أيضًا إحدى طرق التواصل التي تستخدمها الذئاب، ولكنها وسيلة للتواصل فيما بينها، وليست للتواصل مع البشر، فالذئاب لديها عدد قليل نسبيًا من العضلات سريعة الارتعاش، في مقابل عدد أكبر من العضلات بطيئة الارتعاش، الملائمة أكثر للعواء، الذي يتطلب انقباض عضلات الوجه لفترة طويلة، مقارنة بالنباح.
هناك الكثير من التكهنات حول كيفية تطور النباح لدى الكلاب، ولكن يُعتقد أن النباح كان أيضًا نتيجة واضحة لاستئناس هذه الحيوانات، وتطور قدرات عضلات الوجه لديها على مدار آلاف السنين، ما سمح بزيادة عدد العضلات سريعة الارتعاش، التي سمحت للكلاب بالنباح بدلًا من العواء كالذئاب.
يعتقد الباحثون أيضًا أنه كنتيجة لعملية الاستئناس، ربما فضّل البشر الكلاب التي تستطيع النباح، ما جعلها بمثابة ميزة تطورية تتناقلها الأجيال الجديدة للحفاظ على درجة تواصل عالية مع مربيهم من البشر، والدليل على ذلك أن معظم السلالات القديمة لا تنبح كثيرًا.
في النهاية، لا يمكن إنكار العلاقة الاستثنائية التي نشأت بين الكلاب والبشر على مدار آلاف السنين، وجعلت من الكلب الصديق الأوفى للإنسان، وكذلك جعلت الإنسان مؤثرًا في كيفية تطور هذا الصديق، الذي يعد القرب منه سببًا كافيًا للسعادة، والنظرة المتبادلة بيننا وبينه، كافية لإطلاق هرمونات الحب في عروقنا.