بعد قضاء يوم مرهق في العمل، بين الكثير من المهام والاجتماعات، تصبح غاية أمانيك هي الوصول إلى المنزل في أسرع وقت لتتمتع ببعض الهدوء، فتلجأ إلى هاتفك رغبة في الاستماع إلى بعض الموسيقى التي تجنبك أصوات السيارات وضوضاء الشوارع حتى تصل إلى المنزل، تمتد يديك إلى السماعة لتجدها متعقدة بالكامل، فتشعر أن العالم كله يتآمر ضدك.
تعقد سلك السماعة هو أحد أكثر الأمور التي تثير أعصابنا، والذي على بساطته، فقد بقي لسنوات لغزًا محيرًا للكثيرين حول العالم، لماذا يتعقد السلك مهما حاولنا لفه جيدًا وتركناه فقط لدقائق معدودة داخل الحقيبة؟
العقدة الرياضية
طالما تعامل البشر مع الأسلاك بأشكالها المختلفة، وأرّقتهم فكرة تعقدها بشكل تلقائي دون أي تدخل واضح من البشر أو عوامل الطبيعة، ولذلك بحلول القرن التاسع عشر، قدّم علماء الرياضيات "نظرية العقد" لدراسة هذه العقد وتفسير أسباب هذا التعقد التلقائي للأسلاك، سواء كانت على هيئة كابلات أو وصلات أو حتى أربطة أحذية أو سلاسل حُلّي.
لفهم نظرية العقد يجب أن نفرق بين العقدة التي نعرفها ونستخدمها في حياتنا اليومية وما يقصده علماء الرياضيات بمصطلح العقدة، فالعقدة الرياضية تختلف قليلًا، فإذا لصقت طرفي سلك ببعضهما ثم ربطت الطرفين لتكوين عقدة، فقد صنعت عقدة رياضية، حيث إن التحام طرفي السلك الذي تكونت به العقدة، هو ما يميز العقدة الرياضية عن تلك العادية التي نعرفها.
ولأكثر من 100 عام، استطاع العلماء استخدام هذه النظرية لتفسير الكثير من الظواهر الفيزيائية المرتبطة بالأسلاك وكيفية تعقدها وفكها، كما ظهرت الكثير من التطبيقات التي جعلتها محل استخدام في مجالات علمية مختلفة مثل علوم الأحياء وأنظمة التشفير وتطبيقات الـ GPS وتحريك الروبوتات.
استخدامات نظرية العقد
- في مجال علم الأحياء: استخدم العلماء نظرية العقد لتفسير انقسام الخلايا، حيث إن الانقسام يعتمد على تضاعف الحمض النووي الموجود بالخلية، ما يتطلب فك التشابك بين اللولب المزدوج للحمض النووي، ثم تكوين نسخة ثانية منه. تساهم النظرية في توضيح مدى صعوبة فك وإعادة تكوين العقد المختلفة الموجودة على طول الحمض النووي.
- في مجال الأمن: تستخدم بعض الشركات بروتوكول أمان يعتمد على نظرية العقد في التشفير، حيث يستخدم البروتوكول المعلومات الرياضية الموجودة على العقد لفك تشفير البيانات السرية، الموجودة في الكثير من الأجهزة ومنها أجهزة الدفع المحمولة وغيرها.
سلك السماعة ونظرية العقد
عام 2007، ومع ظهور مشكلة تعقد سماعات الهواتف، لفتت نظرية العقد نظر اثنين من علماء الفيزياء وهما "دوجلاس سميث" و "دوريان رايمر" لتفسير التعقد التلقائي لسماعات الأذن، عن طريق إجراء عدد من التجارب بوضع أسلاك بأطوال مختلفة في صندوق وتقليبه لمدة 10 ثوان تقريبًا، مع تكرار التجربة وتحليل النتائج المختلفة التي توصلوا إليها.
أجرى الباحثان في قسم الفيزياء بجامعة كاليفورنيا الدراسة على 3415 سلك مختلف، مع تغيير أطوال الأسلاك وأحجام الصناديق التي توضع بها، ومعدلات الدوران، ليتوصلوا إلى نظرية رياضية تفسر التعقد التلقائي للسلك، حيث كشفت الدراسة عن الآتي:
- الأسلاك التي يبلغ طولها أقل من 46 سم: لن تتشابك أبدًا عند وضعها داخل صندوق دوار لمدة معينة.
- الأسلاك التي تتراوح أطوالها بين 46 إلى 150 سم: ترتفع احتمالية تعقدها بشكل كبير مع زيادة الطول، حتى تصل إلى نسبة 50 % من الحالات.
- الأسلاك الأطول من 150 سم: لا تزداد فيها احتمالات التعقد مع زيادة الطول عند وضعه في صندوق دوار.
يبلغ طول سماعة الهاتف في المتوسط نحو 120 : 160 سم، لذلك فإنها عندما توضع في جيب أو حقيبة مع الحركة بها، فإنها تتعقد وفقًا لهذه النظرية بنسبة 50%، ثم أن الأمر لا يستغرق وقتًا طويلًا حتى يتعقد السلك بشكل متكرر، وكل ما يتطلبه الأمر هو أن يتداخل أحد طرفي السلك مع الطرف الآخر مرتين، لتتكون عقدة تلقائية ويتتابع تكون العقد. كما هو موضح بالرسم التخطيطي
هل هناك ما يمكن فعله لتجنب تعقد سلك السماعة؟
في الواقع، أجرى علماء الفيزياء المهتمين بهذا الشأن الكثير من التجارب على سماعات الأذن، وتوصلوا إلى أن الحل الوحيد لهذه المعضلة اليومية، ربما يكمن في وضع السماعة في العلبة المخصصة لها التي تأتي مع الهاتف عند شرائه، إذ يكون الصندوق صغيرًا، ما يقلل من احتمالات التشابك وتكون العقد على طول السلك.
ومع ذلك، يرى الكثيرون أن هذا الحل غير قابل للتطبيق في معظم الحالات، فالبعض يتخلص من صناديق السماعات بمجرد فتح الهاتف، والبعض الآخر قد لا تأتيه السماعات في صناديق من الأساس، ولذلك يلجأ الكثيرون حاليًا لإنهاء هذه المشكلة باستبدال السماعات التقليدية ذات السلك، بتلك التي تعمل عن بعد بالبلوتوث، تسهيلًا على أنفسهم.
في النهاية، قد تلجأ إلى سماعات الأذن التي تعمل عن بعد لحل هذه المشكلة، ولكنها مع ذلك ستظل قائمة، فإن أفلتت من تعقد سلك السماعة، قد تجد نفسك مجبرًا على فك تشابك أسلاك التلفاز وبقية الأسلاك الكهربائية في منزلك، أو قد تجدين نفسك مجبرة على فك تشابك سلاسل الحلي في كل مرة قبل ارتدائها، فالأمر برمته يخضع لقوانين الاحتمالات، وفي كل مرة تقرر وضع سلك في صندوق، ستجد نفسك تلعب النرد وتراهن على احتمالات الـ 50 : 50.