العلاج بالفن | حقيقة علمية أم مجرد ابتداع؟

في أربعينيات القرن الماضي، بدأ الحديث لأول مرة عن تقنية علاجية جديدة في مجال علم النفس، حين أشارت عالمة النفس الأمريكية "مارجريت نومبورج" إلى دور العلاج بالفن في تحسين إدراك الفرد لذاته، والواقع من حوله، لتصبح "نومبورج" رائدة هذا المجال.

بدأت "نومبورج" بتطوير برامج العلاج الفني لمرضى الاضطرابات النفسية، اعتقادًا منها بأن الفن يعطي الأفراد فرصة للتعبير عن أنفسهم واكتشاف ما يدور في العقل اللاوعي، ما يعمل بدوره على إعطاء المعالجين النفسيين فكرة أفضل عن كيفية مساعدتهم.

طورت "نومبورج" طرق العلاج بالفن، عن طريق رسم صور معينة، ومناقشة تلك الصور وتحليلها مع المعالج ضمن جلسات العلاج النفسي، لتعزيز فهم الذات بوضع المشاعر في إطار فني، بحيث يصبح الفن لغة يعبر بها الأفراد عن أفكارهم ومشاعرهم الدفينة، التي عجزت الكلمات عن التعبير عنها.

كيف يؤثر التعبير الفني على إدراكنا للواقع؟

تعرّف "الجمعية الأمريكية للعلاج الفني" هذا المجال بأنه مهنة تكاملية تهتم بالصحة العقلية والخدمات الإنسانية على حد سواء، حيث تثري حياة الأفراد والأسر وحتى المجتمعات المحلية، عن طريق العملية الإبداعية التي ينخرط فيها الأفراد، استنادًا إلى علم النفس التطبيقي الذي طوره عالم النفس الألماني "هوجو مونستربرغ". 

كما تشير أيضّا إلى دور العلاج بالفن في تحسين الوظائف المعرفية والإدراكية للفرد، وتعزيز احترام الذات من خلال الفهم الأعمق للنفس، ما يعمل على تعزيز المرونة العاطفية، والحد من الصراعات النفسية.

وقد شرع الباحثون في دراسة التأثيرات المحتملة للعلاج بالفن على مجموعة من الأفراد الذين يعانون بعض اضطرابات الشخصية. واستنادًا إلى آراء المشاركين في تلك الدراسة، تمكن الباحثون من تحديد خمسة محاور رئيسية لتأثير العلاج بالفن على الأفراد، وهي:

  • إدراك الذات

أفاد المشاركون في الدراسة بأن التعبير الفني ساعدهم بشكل كبير في التركيز على اللحظات الراهنة، وعزز شعورهم بالاستجابة العاطفية للمواقف، كما أتاح لهم الفرصة لفهم الصلة بين الذات وبين تلك الاستجابات العاطفية المختلفة. وعلى الرغم من غرابة ذلك الشعور في بداية الأمر -على حد قولهم- إلّا أنه يعد الخطوة الأولى في رحلة الاعتراف بالمشاعر وفهم الذات. كما يعد نقطة الانطلاق، ليس فقط للفرد، بل أيضّا للمعالج النفسي، لاستكشاف المزيد عن الحالة واتخاذ الإجراءات العلاجية اللازمة.

  • دمج المشاعر المتضاربة

أفاد المشاركون في تلك الدراسة بأن التعبير عن مشاعرهم عن طريق الفن أتاح لهم الفرصة لدمج المشاعر المتضاربة التي تطويها خلجات النفس في صورة واحدة متكاملة، ما يتيح فهم أعمق لتلك المشاعر والتفكير في سبل مختلفة للتعامل معها. كما أشار المشاركون إلى أن فهم مشاعرهم المتضاربة ساعدهم في تعزيز هويتهم، والتفكير في ذواتهم بشكل إيجابي.

  • تنظيم الاندفاعات العاطفية

تختلف طبائع الناس واستجاباتهم العاطفية للمواقف المختلفة. يشير المشاركون إلى أن التعبير الفني عن مشاعرهم ساعدهم في التحرر من الاستجابات العاطفية المندفعة وغير المجدية. بمعنى آخر، فإن التعبير الفني أتاح لهم مجالًا لتجربة استجابات عاطفية مختلفة للمشاعر الصعبة، بهدف الوصول إلى أفضل استجابة ممكنة، ما يعزز الثقة بالنفس واحترام الذات.

  • التغيير السلوكي

أفاد العديد من المشاركين أنهم تعلموا تغيير استجاباتهم السلوكية في أثناء عملية التعبير الفني. لا يقتصر ذلك التغيير السلوكي على السلوك تجاه الأفراد فحسب، بل يشمل أيضًا السلوك تجاه النفس.

يُعزى ذلك التغيير السلوكي إلى طبيعة التعبير الفني التي تعتمد على التعبير عن الذات، وتنطوي على خيارات عدّة للاستجابة للمواقف، ما يتيح الفرصة للمشارك لتحديد أفضل نتيجة، وعليه اختيار السلوك الأمثل للتعامل في تلك المواقف.

  • التعبير عن الذات
اقرأ أيضاً:  كي لا تقتلك موجات الحر

يعتمد العلاج بالفن بشكل كبير على خلق مساحة آمنة للفرد، يعبر فيها عن المشاعر والتجارب التي تعجز الكلمات عن وصفها، ما يجعلها تبقى حبيسة في النفس.

يشير المشاركون في الدراسة إلى أن فاعلية تجربة العلاج بالفن لا تقتصر فقط على مرحلة التعبير الفني، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، عند النظر إلى النتيجة النهائية لذلك التعبير، ومحاولة فهم الصورة كاملة بعد انتهاء كل جزء على حدة. 

والجدير بالذكر هو إفادة المشاركين بأنهم شهدوا في أثناء جلسات العلاج بالفن حوارًا داخليًا مع ذواتهم، استرشدوا به في اختياراتهم، خلال العمل على المنتج الفني، ما يؤكد الدور الفعال الذي يلعبه العلاج بالفن في فهم الذات بشكل أعمق والتعبير عنها في صورة فنية.

هل العلاج بالفن ذو كفاءة وفعالية؟

بطبيعة الحال، فإن العلاج بالفن مجال علمي جديد نسبيًا، الأمر الذي دفع العديد من الباحثين لإجراء المزيد من الدراسات لفهم تأثير العلاج بالفن على الأفراد، والفئات التي يستهدفها هذا النوع من العلاجات.

العلاج بالفن والأمراض المستعصية

اهتم العديد من الباحثين بدراسة تأثير العلاج بالفن على مرضى السرطان، ولعل أبرز الدراسات التي عنيت بذلك هي الدراسة التي تضمنت أكثر من مئة سيدة تعانين سرطان الثدي. اختبر الباحثون تأثير جلسات العلاج بالفن والممارسات التأملية على المشاركات لمدة ثمانية أسابيع، ليجدوا في نهاية الدراسة انخفاضًا كبيرًا في معدلات الشعور بالاستياء وازدراء النفس في مجموعة المشاركات مقارنة بالمجموعة التي لم تتلق جلسات العلاج الفني.

لم تقتصر الدراسات على مرضى السرطان فحسب، بل عني الباحثون بدراسة تأثير إضافة العلاج الفني لبرامج التثقيف العلاجي للأفراد الذين يعانون السمنة. شملت تلك الدراسة 170 مشارك، قُسّموا إلى مجموعتين، تلقت كلاهما برنامج التثقيف العلاجي الخاص بالسمنة، ولكن مع إضافة جلسات العلاج الفني للمجموعة الثانية. 

استغرقت تلك الدراسة أسبوعان، وقيم الباحثون نتائجها بعد ستة أسابيع، ليجدوا أن كلا المجموعتين أظهروا نجاحًا كبيرًا في فقدان الوزن، ولكن أظهرت المجموعة الثانية التي تلقت العلاج الفني زيادة في شواهد القدرات الإبداعية للمشاركين، ما دفع القائمين على الدراسة بإقرار أهمية اقتران العلاج الفني ببرامج التثقيف العلاجي للأمراض المختلفة.

العلاج بالفن والصحة العقلية

على الرغم من النتائج الواعدة للدراسات التي اهتمت بتأثير العلاج بالفن على الأفراد، إلّا أن الدراسات المعنية بتأثير العلاج بالفن على الأمراض العقلية، مثل الفصام، لم تظهر اختلافًا كبيرًا في النتائج، سوى انخفاض بسيط في حدة الأعراض المصاحبة للفصام في الأفراد الذين تلقوا جلسات العلاج بالفن عن المجموعة التي لم تتلق تلك الجلسات.

العلاج بالفن وضحايا الصدمات النفسية

في مارس من عام 2013، نشر مجموعة من الباحثين الروس دراسة عن تأثير التعبير الفني بطريقة فكاهية على 112 مشارك من ضحايا الحروب. أشارت نتائج هذه الدراسة إلى الدور الإيجابي للتعبير الفني في العملية الإبداعية وتعزيز مهارات الفرد الإدراكية، كما أشارت إلى الدور العلاجي الذي يلعبه التعبير الفني في التعافي من اضطراب ما بعد الصدمة.

أخيرًا، فإن الحداثة النسبية لمجال العلاج بالفن تجعله محاطًا بالغموض، كما تثير العديد من التساؤلات المحيرة التي ننتظر الإجابة عنها وتفسيرها بالمزيد من الدراسات في المستقبل القريب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share