تخيل أنك تجلس في قلب أحد تلك الحفارات المقاومة للضغط ودرجة الحرارة التي نراها في أفلام الخيال العلمي؛ لنعدّ العدة ونأخذ العتاد كي نذهب في رحلة داخل الكرة الأرضية للتعرف على طبقات الأرض، رحلة طويلة قد تصل إلى أكثر من 12 ألف كم، في حين أن برنامج تلك الرحلة يتكوّن من ثلاث نطاقات رئيسية متفرعة إلى عدة أقسام وهم القشرة الأرضية والوشاح ثم أخيرًا لبّ الأرض.
جولة من السماء الأولى في قلب غلافنا الجوي؛ للتعرف على طبقات الغلاف الجوي للأرض.
أولًا: القشرة الأرضية
تُعتبر أول الطبقات الصلبة في تركيب الأرض وأرفعها على الإطلاق، فإذا مثلنا الكرة الأرضية ببيضة فإن قشرتها ستكون القشرة الأرضية؛ بل أرفع منها، ويصل سُمك القشرة الأرضية إلي حوالي 60 : 100 كم، حيث تنقسم إلى نوعين:
-
القشرة القارية (Continental Crust)
هي الجزء الجليّ أمامنا الذي يضم الجبال والوديان والأنهار وغيرها من المعالم الجيومورفولوجية دونًا عن قيعان المحيطات. يصل سُمك هذة الطبقة أحيانًا إلى 36 كم، وتتكون من الصخور الرسوبية والصخور النارية الحامضية الصلبة الخفيفة كالجيرانيت، كثافة هذه الطبقة 2.83 جم/سم3 وهي أقل نسبيا من كثافة القشرة المحيطية، تُسمى صخورها بصخور "السيال SiAl" وذلك لاحتوائها على السيليكون Si والألومنيوم Al.
-
القشرة المحيطية (Oceanic Crust)
توجد هذة القشرة في قيعان المحيطات أو أسفل القشرة القارية وذلك لأنها أعلى في الكثافة تبعًا للصخور الموجودة بها كالصخور القاعدية وفوق القاعدية الصلبة مثل البازلت. سُمك هذة الطبقة حوالي 6 كم وتُسمى صخور هذا الجزء بصخور "السيما SiMg" وذلك لاحتوائها على السيليكون Si والماغنسيوم Mg.
تتميز القشرة الأرضية بدقة الوصف، ذلك لسهولة دراستها بسبب إمكانية استخدام الكثير من الأجهزة والتجارب للتعرف على ما تراه أعيننا وما تستطيع أيدينا لمسه، رغم أن أحد الآبار المحفورة قد يصل إلى قرابة 13 كم داخل الأرض. لكن دعنا نتعمق أكثر من ذلك قليلًا لنجد أنفسنا قد وصلنا إلي ما يُسمى بسطح موهو وهو مستوى وهمي يفصل بين آخر حدود القشرة الأرضية وبداية الوشاح العلوي لنتعرف على النطاق الذي يمثل بداية جوف الأرض.
دعنا أولًا نتعرف على كيفية اكتشاف جوف الأرض الغير مرئي وكيف نصفه بدقة كما لو أننا نراه!
كيف ساعدتنا الموجات الزلزالية في التعرف على جوف الأرض؟
لم تكن الموجات الزلزالية مصدرنا الوحيد للتعرف على تكوين الأرض الداخلي، بل ساعدنا على ذلك أيضًا المجال المغناطيسي للأرض ودراسة الشهب والنيازك لتشابهها الكبير بتركيب الأرض، كذلك التجارب المعملية وغيرها من الطرق.
لكن أحد أهم الطرق الجيوفيزيائية على الأطلاق التي لها فضل كبير في اكتشاف جوف الأرض هي السيازميك "Seismology" وهي طريقة دراسة وتحليل الموجات الزلزالية. وهذه الموجات عبارة عن نوعين: موجات أولية تضاغطية (P-Waves) وموجات ثانوية (S-Waves) إلا أن الفرق بين هاتين الموجتين هو السبب في تحديد طبيعة الطبقات الداخلية للأرض.
الموجات الأولية هي موجات تضاغطية سريعة ذات تردد عال وطول موجي صغير، تستطيع العبور خلال كل الأوساط الصلب والسائل وحتى الغازي منها، على عكس الموجات الثانوية -البطيئة نسبيًا مقارنةً بالموجات الأولية- بترددها المنخفض وطولها الموجي العالي؛ فهي لا تمر خلال كل الأوساط، إنما فقط خلال المواد الصلبة.
وكذلك تكشف لنا الأرض أسرارها الداخلية بسهولة
ثانيًا: الوشاح
[PUB] 'Classic' USGS Publication. The composition of the Earth's crust Professional Paper 127 By: F.W. Clarke and H.S. Washington (1924)https://t.co/RqOLKHPRDd pic.twitter.com/jRcQ4dp6P8
— USGS (@USGS) February 4, 2020
من خلال تحليل الموجات الزلزالية الواردة من جوف الأرض استطاع العلماء تحديد وشاح الأرض وتقسيمه إلى ثلاثة أجزاء:
-
الوشاح العلوي (The Upper Mantel)
يصل سُمك الوشاح العلوي إلى ما يقارب 400 كم، ويتكون من الصهارة أو المجما (Magma) وهي عبارة عن صخور لدنة مائعة من (البريدوتيت -Predotite- والدونيت -Dunite- والإكلوجيت -Eclogite-)، ولعل "تيارات الحمل" هي أكثر ما يميز هذا الجزء من تركيب الأرض، وهي عبارة عن حركة تلك الصخور المنصهرة نتيجة لتباين درجات الحرارة في ذلك النطاق مما يؤثر على النطاق الذي يعلوه ويسبب حركة القشرة الأرضية "وحركة القارات" حسب نظرية الألواح التكتونية، أسفل هذا النطاق توجد منطقة واصلة بين الوشاح العلوي والسفلي.
-
المنطقة الانتقالية (Transition Zone)
يصل سُمك هذا النطاق إلى ما يقارب 600 كم أسفل الوشاح العلوي ويصل بينه وبين الوشاح السفلي.
-
الوشاح السفلي (The Lower Mantle)
يصل سُمك الوشاح السفلي إلى ما يقارب 1880 كم ويُعتبر أكثر كثافة وحرارة من الوشاح العلوي والمنطقة الانتقالية، كما أنه أقل قابلية للتشكيل عنهما؛ فعلى الرغم من درجة الحرارة العالية التي تعطيه بعض الليونة، يجعل الضغط الشديد صخور طبقة الوشاح السفلية في حالة صلبة دائمًا.
الآن لنتوجه للمنتصف الأعمق الذي لم تراه عين يومًا وما لم نستطع التوصل إلي دراسته عمليًا وهو اللبّ.
ثالثًا: اللّبّ
عام 1936 وبفضول تام لمعرفة ما بمركز الأرض وما يدور عميقًا على بعد أكثر من 5000 كم تحت أقدامنا، قامت عالمة الزلازل الدنماركية "إنج ليمان" بدراسة الموجات الزلزالية في منطقة نيوزيلندا، ولاحظت من خلال تحليلها لتلك الموجات أنها تنعكس عند عمق معين داخل الأرض، مما يعطي نتائج أولية عن وجود لبّ للأرض. تم تأكيد فكرة إنج ليمان عام 1970 باستخدام أجهزة رصد الزلزال الأكثر دقة وحساسية، والتي أثبتت مرور موجات أولية P-wave عبر اللّب. ومن ثم تهافت علماء الأرض لتحليل الكثير من الموجات للتعرف على طبيعة هذا اللب، فهل هو صلب أم منصهر كما يعتقد بعض الناس؟
من خلال خصائص الموجات الأولية والثانوية التي استغلها العلماء في وصف طبيعة وسُمك الطبقات الداخلية للأرض تبعًا لاختلاف سرعة تلك الموجات في الأوساط المختلفة وارتدادها عند الأسطح الفارقة بين الطبقات، استطاعوا التنبؤ بشكل لبّ الأرض (Core) والتنبؤ بدرجة الحرارة التي قد تصل إلى 6000 درجة سيليزية أيضًا، وكذلك تقسيمه إلى:
-
اللّب الخارجي (Outer Core)
الجزء الخارجي من قلب الأرض وسُمكه 2250 كم، طبيعة هذا الجزء منصهرة ويرجع ذلك لاحتوائها على الحديد Fe والنيكل Ni غير النقيان بوجود نسبة من الشوائب كالسيليكا Si وبعض العناصر الأخرى التي تحول دون تصلب لب الأرض الخارجي، وتتراوح درجة الحرارة في اللب الخارجي من 4500 إلى 5500 درجة سيليزية.
-
اللّب الداخلي (Inner Core)
يُعتبر هذا الجزء هو النواة الحقيقية للأرض وسُمكة 1220 كم، يتكون من معادن ثقيلة كالحديد Fe والنيكل Ni النقيان؛ مما يمنحه طبيعة صلبة على عكس اللب الخارجي، وتصل درجة الحرارة بهذا الجزء إلى 5200 درجة سيليزية إضافةً إلى أن الضغط به قد يصل إلى 3.6 مليون ضغط جوي.
ومن خلال دوران اللب الخارجي المنصهر حول اللب الداخلي الصلب نشأ المجال المغناطيسي للأرض وهو أحد المصادر الذي تثبت وجود الاختلاف بين طبيعة اللب الداخلي والخارجي.
بعد أن تعرفنا على طبقات الأرض، إلى هنا تنتهي رحلتنا إلى مركز الأرض. مع وعد بجولات مشوقة أخرى.