تناغم العقل والجسد مع الإيقاع

مقال مجاني

كيف تحركنا الموسيقى؟

يتحدث مؤلف كتاب "هذا هو تأثير الموسيقى على دماغك" عن الطرق التي يتناغم بها العقل والجسد مع الإيقاع.

الموسيقى والرقص شيئان متجذران في التجربة الإنسانية لدرجة أننا نعتبرهم أمرًا مسلماً به. إنهما مختلفان عن بعضهما البعض، ولكنهما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا: الموسيقى - توزيعات الصوت على مرور الوقت - تجعلنا نحرك أجسادنا في المكان. 

دون معرفة ذلك نتتبع النبض والإيقاع ونتحرك استجابةً لذلك. لكن في الآونة الأخيرة فقط طور العلماء الأدوات والدافع للدراسة الكمية لاستجابة الإنسان للموسيقى بأشكالها المتعددة. إنه برنامج بحثي يعتمد على مجموعة واسعة من الأساليب، ويستخدم العديد من التقنيات من دراسة الإدراك إلى علم الأحياء العصبية والتصوير العصبي، مع رؤى إضافية من علم النفس الجسدي وعلم النفس التطوري والدراسات التي تجرى على الحيوانات.

من بين النتائج الأكثر إثارة للاهتمام: الأدلة التي تشير إلى أن عددًا من الحيوانات بما في ذلك أسود البحر في كاليفورنيا وقرود المكاك ريسوس، يمكنها الاستجابة للموسيقى والتناغم مع الإيقاع" - وإن كان ذلك على درجة أقل من البشر. وبينما يبدو أن البشر مبرمجين للاستجابة للموسيقى، فإن هذه البرمجة يمكن أن تتلف: تم الإبلاغ عن بعض الحالات النادرة لأشخاص غير قادرين على مزامنة حركات أجسادهم مع الإشارات الصوتية. يبدو أن السبب هو تلف أو خلل وظيفي في بعض مناطق الدماغ الرئيسية، مثل العقد القاعدية، التي  تتحكم في الوظيفة الحركية الإرادية والتعلم الإجرائي.

عالم النفس المعرفي دانيال ليفيتين من جامعة ماكجيل في مونتريال، والذي بدأ حياته المهنية كموسيقي، كتب عدة مرات عن علاقة العلوم بالموسيقى، بما في ذلك كتابين شهيرين، الأول هو"هذا هو تاثير الموسيقى على دماغك: علم الهوس البشري
 This Is Your Brain on Music: The Science of a Human Obsession (2006)" 
 و كتاب "العالم في ست أغنيات: كيف أبدع الدماغ موسيقى الطبيعة البشرية
The World in Six Songs: Howthe Musical Brain Created Human Nature( العالم. 
نُشرت مقالته بعنوان "علم نفس الموسيقى: الإيقاع والحركة"، الذي شارك في تأليفه مع جيسيكا غراهن وجوستين لندنفي دورية Annual Review of Psychology عام  2018.

حاورت مجلة Knowable Magazine ليفيتين عن تحديات وإيجابيات دراسة استجابة الإنسان للموسيقى. تم تحرير هذه المحادثة من أجل الطول والوضوح

كيف أصبحت مهتمًا بهذا المجال؟

كنت موسيقيًا محترفًا لسنوات عديدة. لقد تركت الكلية بالفعل للعمل كموسيقي وكموزع موسيقى. بعد ذلك، عندما عدت إلى الكلية، كنت مدفوعة بأسئلة حول كيفية قيام الموسيقيين بعمل ما يفعلونه. لماذا بعض الموسيقيين أفضل من غيرهم؟ لماذا يصل بعض الموسيقيين إلى أشخاص أكثر من غيرهم؟ ما الذي يحدث خلال هذا النوع من التواصل العاطفي؟ في البداية لم يكن لدي أي فكرة عن التخصص الأكاديمي الذي سيتعامل مع هذه الأسئلة. ذهبت إلى قسم الموسيقى والفلسفة، حيث كان لديهم فصول في علم الجمال؛ ولجأت إلى علم الاجتماع، حيث ثمة دروسًا حول سلوك المجموعة استجابة للتطورات والحركات؛ لكن كان علم النفس، وخاصةً علم النفس الإدراكي، هو الذي بدا أنه يمتلك الأدوات اللازمة لطرح هذه الأسئلة.

هل لدينا أي طريقة لمعرفة إلى أي مدى كان هذان الشيئان - الموسيقى والرقص - جزءًا من تاريخنا التطوري؟

على عكس لوحات الكهوف، التي تركت بعض الأدلة التي نستطيع تحديد تاريخها واختباره باستخدام تأريخ الكربون المشع. فإن الموسيقى، كونها سريعة الزوال وسمعية، لا تترك أثرًا - على الأقل لم تترك أي أثر حتى حصلنا على أشياء مثل لفائف البيانو أو النوتات الموسيقية المكتوبة. 

لذلك علينا أن نعتمد على الاستدلال، وبعض تلك الاستدلالات قوية جدًا. بعض أقدم القطع الأثرية التي وجدناها والتي تخص البشر الأوائل هي مزامير عظمية. يبلغ عمر بعض هؤلاء أكثر من 40000 عام. والعديد منهم يعزفون على السلم الخماسي، وهو في الأساس السلم الموسيقي لموسيقى البلوز. لذلك فإن البشر لم يسمعوا الموسيقى فحسب منذ 40 ألف عام، لقد عرفنا موسيقى البلوز لمدة 40 ألف سنة! وإذا كنت قد استمعت إلى موسيقى البلوز فيما سبق، قد تشعر في بعض الأيام وكأنك شخصياً استمعت إليها منذ 40 ألف عام.

ثمة دليل آخر هو تصوير الناس وهم يرقصونفي لوحات الكهوف أو على قطع الفخار.  الدليل الثالث يأتي من الصيادين أو الجماعات القبلية البسيطة والتي على حد علمنا هي معزولة عن الحضارة أو التكنولوجيا، وبعيدة عن عن التأثير الغربي. وجد علماء الأنثروبولوجيا ومختصو علم النفس الثقافي الذين ذهبوا لزيارتهم، ورؤية طريقة حياتهم، أنه كان لديهم موسيقى ورقص. 

في كتابه كيف يعمل العقل  How the Mind Works الصادر عام 1997، أشار عالم النفس ستيفن بينكر بشكل واضح (أو ربما خبيث) إلى الموسيقى باسم "كعكة الجبن السمعية". كان ادعاؤه أن الموسيقى لا يمكن أن تكون تكيفًا تطوريًا، لأنها لا تقدم أي ميزة للبقاء؛ وأشار إلى أنها كانت نتيجة عرضية لتطور اللغة. أعتقد أن وجهة نظرك مختلفة تمامًا، أليس كذلك؟

أعتقد أن هناك دليلًا على وجود "وحدات لاكتساب الموسيقى" في أدمغتنا، مماثلة لما وصفه نعوم تشومسكي لوحدات اكتساب اللغة. يستجيب الأطفال والرضع للموسيقى بمجرد تعرضهم لها؛ لست بحاجة إلى تعليمهم ذلك مباشرة. بعمر بضع سنوات فقط، يمكن لمعظم الأطفال معرفة ما إذا كان هناك نغمة وتر ناشزة أو نوتة غير متناغمة. يشير هذا إلى أن هناك دوائر تطورت في الدماغ يمكنها أخذ المعلومات أو ذلك التحفيز من قناة حسية واحدة - القناة السمعية - وترجمة ذلك إلى ناتج حركي – أي حركة الجسم.

نحن الأنواع الوحيدة التي يمكنها فعل ذلك. هذا يشير إلى وجود بعض المزايا التطورية. قد يتعلق الأمر بالقدرة على مزامنة أفعال المرء مع الآخرين. فقط تخيل أنك تبني الأهرامات: أنت ترفع الحجارة وتحاول وضعها في مكانها - تريد أن تكون قادرًا على القيام بـ رفع الحجارة دون أن تغمض عينيك عن عملك. ماذا لو كان لديك أغنية عمل - "واحد، اثنان، ثلاثة، الآن" - يمكن أن تساعد الأغنية في مزامنة الحركات لرفع الأشياء الثقيلة، أو للصيد؟ يمكن أن تكون القدرة على العمل معًا مع الحركات الإيقاعية المتناغمة ميزة كبيرة. وهناك رقص: في كل ثقافة نعرفها، طوال تاريخ البشرية تقريبًا، ترابطت الموسيقى بالرقص. بعض هذه الرقصات يمكن أن تستمر لساعات. لذلك مثل ذيل الطاووس، كان صنع الموسيقى عرضًا للكفاءة الجنسية والبدنية والعقلية - عرضًا للياقة التطورية. 

اقرأ أيضاً:  فيلم Einstein and Eddington: النسبية وأوروبا القرن العشرين

ثمة ميزة أخرى للموسيقى تتمثل في دورها في الترابط الاجتماعي - بين الأم والرضيع، على سبيل المثال. تغني الأمهات من جميع الثقافات بشكل غريزي لأطفالهن. هذه طريقة لجذب انتباه الرضيع، حتى يتعلم الرضيع كيف يبدو صوت الأم.

ربما تكون الذاكرة هي الأكثر إثارة للاهتمام: الموسيقى، بسبب إشاراتها المعززة بشكل متبادل من عناصر الإيقاع، واللهجة، والبنية والقافية - وقواعد الوزن. ليست توافق  نغمات فحسب، كل هذه الأشياء تجعل الموسيقى وسيلة مثالية لتشفير الرسائل. ولهذا السبب تم تناقل أشياء مثل العهد القديم، أو الإلياذة والأوديسة، من خلال الموسيقى، قبل قرون من كتابتها. التقاليد الشفهية، المنشدون الرحالة- كانت هذه طرق رائعة للحفاظ على المعلومات.

نختلف أنا وبينكر حول كيفية تفسير الأدلة - ولكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها العلم: نحن نجمع الأدلة، ونزنها، وفي النهاية يتوصل المجتمع إلى إجماع، أو شيء قريب من ذلك.

من المثير للاهتمام، أنه حتى الأشخاص الذين ليس لديهم أي تدريب موسيقي جيدون في "الحفاظ على الإيقاع". لقد أشرت في ورقتك على سبيل المثال، إلى أنه عندما يغني غير الموسيقيين أغانيهم المفضلة من الذاكرة، فإن الخطأ في الإيقاع يكون ضمن نسبة قليلة مقارنة بإيقاع النسخ القياسية المسجلة. هل هذا الإحساس بالإيقاع مجرد مهارة ولدنا بها؟

نعم، يبدو الأمر كما لو أنه متشابك. ذلك لأن الخلايا العصبية تتزامن مع إيقاع الموسيقى، ولأن الأطفال يمرون بفترة من ممارسة المهارات الحركية وعرض النتائج المخطط لها كطريقة لتدريب نظامهم الحركي البصري. يحدث شيء مشابه عندما "نسير معاً بتزامن"، أو عندما نقوم بتمارين "القفز" معًا في ساحة المدرسة. وكما اقترحت من قبل، هذا على الأرجح يمثل تكيفًا تطوريًا. قد يكون للنجاح في الأنشطة الجماعية المتزامنة قيمة بقاء حقيقية.

قرب نهاية مقالتك، تتحدث عن الكيمياء العصبية للموسيقى. أنت تقول إنها وسيلة واعدة للبحث

نعم، أنا مفتون بذلك. بعد أن أمضيت 20 عامًا في إجراء دراسات تصوير الأعصاب، شعرت بأنني كنت أبحث بطريقة ما في الدليل غير المباشر - كنت أرى أجزاء الدماغ النشطة، لكنني لم أكن أرى حقًا انتقال المواد الكيميائية حول الدماغ، والتي هي بشكل أو بآخر أكثر جوهرية.

لذلك نشرنا دراسة توصلنا فيها إلى بعض الاستدلالات حول إفراز الدوبامين في الدماغ بينما كان الأشخاص عينة البحث يستمعون إلى الموسيقى، بناءً على توقيت التنشيطات التي رأيناها، والمناطق المحددة المعنية.
بعبارة أخرى، كان الناس يستمعون إلى موسيقى ممتعة وأفادوا أنهم شعروا بالرضا. لقد رأينا أن بنية معينة تسمى المنطقة السقيفية البطنية، وبنية أخرى تسمى النواة المتكئة نشطة بعد عدد معين من المللي ثانية بعد أن أصبحت القشرة السمعية نشطة. 

ومن المعروف أن تلك البنى تنظم مستويات الدوبامين. لذلك، تمكنا من خلال الاستدلال الرياضي، من القول أنه أن الدوبامين يتم إطلاقه على ما يبدو. في الآونة الأخيرة طورنا التكنولوجيا لوضع علامة على الدوبامين في الدماغ إشعاعيًا، ثم فحص دماغ شخص ما أثناء استماعه للموسيقى، ومشاهدة أين يذهب الدوبامين. وما فعلته في ورقة بحثية حديثة هو إعطاء  أدوية للمتطوعين التي من المعروف أنها تكبح بعض المواد الكيميائية في الدماغ - بشكل مؤقت بالطبع. لذلك قررنا تثبيط مركبات الأفيونيات بأدمغتهم، والتي تكون مسؤولة جزئيًا عن الشعور بالمتعة.

يطلق الدماغ الأفيونيات استجابة لأشياء معينة مثل الجنس والمخدرات والطعام؛ واعتقدنا أن المواد الأفيونية ربما هي من تنظم المتعة الموسيقية - لكننا لم نكن نعرف على وجه اليقين. قلنا للأشخاص عينة البحث، أحضر أغنيتك الأكثر تفضيلًا، تلك التي تجعلك تشعر بشعور رائع حقًا. 

قمنا بإعطاء عينة البحث دواء يعطل إفراز الأفيونيات لبضع ساعات - وبالتأكيد أفاد الأشخاص الذين كانوا يستمعون إلى الموسيقى أنها بدت جميلة، لكنها لم تحركهم. كانت هذه أغانيهم المفضلة! لكن تحت تأثير الدواء - بالطبع لم يعرفوا ما إذا كانوا يتناولون الدواء أو الدواء الوهمي - وجدنا بشكل واضح أنهم لم يتأثروا بالموسيقى.

كانت تلك طريقة للبحث في الكيمياء العصبية للموسيقى، على الأقل من منظور نظام الأفيونيات. لم ندرس نظام الدوبامين لأنه لا توجد طريقة آمنة لتعطيل الدوبامين في البشر، ولكن قد يكون هناك قريبًا. وهناك مواد كيميائية أخرى يمكننا العمل عليها، مثل نظام هرمون الأوكسيتوسين ونظام هرمون السيروتونين، وما إلى ذلك.

ما هي المشاكل التي يواجهها علم الموسيقى، ودراسة استجابة الإنسان للموسيقى، والتي تود حقًا أن يتم التطرق إليها في السنوات العشر القادمة؟

أعتقد أن الكيمياء العصبية، كما أشرت، ستكون مجال بحث مهم للغاية. هناك سؤال آخر أهتم به - وقد يبدو عاديًا أو تقنيًا - هو ما الذي يفعله عازفو الطبول والذي يجعل الاستماع إلى بعضهم أكثر متعة من سواهم؟ هناك بعض عازفي الطبول الذين أحب اللعب معهم، مثل جريج فيلد ومثل جاري نوفاك. وهناك أيضاً بعض عازفي الطبول الذين لا أحب العزف معهم، ولن أذكر أسمائهم. واحدة من عازفي الطبول المفضلين لدي للعب معهم هي طالبة سابقة لي، بيانكا ليفي، والتي حصلت للتو على درجة الدكتوراه من ماكجيل - إنها رائعة.

أود أن أرى البحث في هذا المجال يصل إلى النقطة التي يأخذون فيها تسجيلات الطبل ويحللون بالضبط توقيت نبضات الطبل الجانبي إلى صوت الصنج المزدوج والطبلة الرئيسية، وفي أي لحظة يندمج الناس مع الإيقاع، وعلاقته بما يلعبه الطبالون في الوقت الآني. فاشتهر مثلًا فرانك سيناترا بأنه يغني وراء الإيقاع. بينما من المعروف أن كندريك لامار يسبقه. كان لدى فريق كريدينس كلير ووتر ريفيفالCreedence Clearwater Revival عازف طبول [دوج كليفورد] والذي كان يعزف بعد الإيقاع بينما عازف الدرامز الحالي، كيني أرونوف الذي يقوم بجولة مع جون فوجيرتي، يعزف قبل الإيقاع. إنه يمنح الموسيقى صوتًا مختلفًا تمامًا، ويتفاعل الناس معها بشكل مختلف. أعتقد أن الفهم الأفضل لذلك يمكن أن يكون له آثار عملية للغاية على تعليم الموسيقى.

تم نشر هذا الموضوع بتصريح من Knowable Magazine، التي تصدرها مؤسسة Annual Reviews، وهي مؤسسة غير ربحية تعنى بأمور النشر العلمي، حيث تقوم بانتاج المحتوى المعرفي الذي يسهم بتطور العلوم المختلفة وبالتالي الارتقاء بالمجتمع. سجل الآن للاشتراك في نشرة Knowable البريدية من هنا.

شاهد أيضاً التلاعب بالعقول.

كيف تحركنا الموسيقى؟,الموسيقى والرقص,تناغم العقل والجسد مع الإيقاع,تأثيرات الموسيقى
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share