التأخر الذهني, مدارس, التربية الفكرية, تحقيقات, مصر

مدارس للتربية الفكرية أم لتعزيز «التأخر الذهني»؟

تحقيق يبحث في مدراس التربية الفكرية، والدور الذي تلعبه في تعليم الأطفال المتأخرين ذهنيًا، وتعزيز قدراتهم، وهل بالفعل تجدي نفعًا؟

فصول قليلة ومزدحمة، تضم حوالي 22500 طالبًا يعانون التأخر الذهني، ولا تتسع لأحلام ذويهم بتعليم جيد وفرص متساوية لأبنائهم. هذه هي الحال في مدارس التربية الفكرية التي يبلغ عددها قرابة 500 مدرسة في شتى محافظات مصر ما بين تعليم ابتدائي وإعدادي مهني.

أمام إحدى مدارس التربية الفكرية بالدقي، تصل مجموعة من الأمهات بأبنائهن وبناتهن إلى المدرسة ليلحقوا بطابور الصباح. ما إن تُغلق بوابة المدرسة، تفترش الأمهات الأرض في انتظار أن تدق الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا –موعد انتهاء اليوم الدراسي الذي لا يختلف كثيرًا عن سابقه.

بين هؤلاء تجلس والدة أحد التلاميذ بالصف السادس الابتدائي والمصاب بمتلازمة داون. تسترجع الأم –والتي رفضت ذكر اسمها– بمزيج من الزهو والحزن السنوات الأربع التي قضاها ابنها في إحدى مدارس اللغات بفيصل، لاقى خلالها رعاية خاصة واندمج مع زملائه «الأصحاء»، بل وتعلم اللغة الانجليزية.

لم تدم هذه الحال طويلًا بعد ما توفي والده، ولم تقو هي على تحمل مصاريف تلك المدرسة فحولته إلى مدرسة تربية فكرية تابعة للحكومة رغم أن مستوى ذكائه حينها كان 70 درجة، وهي درجة تمكّنه من الاستمرار في مدارس الدمج.

تشكو الأم اليوم من تراجع مستواه الدراسي، وترجع هذا التدهور إلى اختلاطه بزملاء أقل ذكاء في الفصل قائلة: «هنا كله على بعضه». مرت أربع سنوات منذ التحاق الابن بمدرسته الجديدة، حيث لا يعلمونهم سوى الحروف الأبجدية والأرقام، بينما تحلم والدته التي تنتظره يوميًا خارج المدرسة بفرصة تعليمية أفضل له إذ تقول: «إحنا عايزين تقدم، بس مش عارفين نتكلم».

المناهج مكررة ولا تُطور من قدراتهم

لم تختلف الشكوى كثيرًا باختلاف المدرسة، ووعي الأهل عندما تحدثنا مع «أماني محمد عبد التواب»، والدة إحدى الطالبات بالمركز النموذجي للتثقيف الفكري بحلمية الزيتون.

أجرت الإبنة اختباري ذكاء قبيل اشتراكها في بطولات رياضية، وفوجئت الأم بأن مستوى ذكاء ابنتها الذي كان يبلغ 72 درجة قبل التحاقها بتلك المدرسة، قد تراجع إلى 65 درجة في الاختبار الأول، ثم تراجع مجددًا إلى 53 درجة في الاختبار الأخير الذي أجرته قبل عام، وهو ما يضعها في فئة «ذوي الإعاقة الذهنية المتوسطة». كما اكتسبت سمات لم تكن لديها من قبل، فقد صارت تميل إلى التكرار والنمطية كزملائها المصابين بالتوحد في الفصل.

أوضحت لنا «أماني» أن إدارة المدرسة وكوادرها متميزة، ومتعاونة مع أولياء الأمور، بل وتقيم لهم اجتماعًا شهريًا لمتابعة تطور مهارات أبنائهم، لكن المشكلة تكمن في منهج الوزارة الذي يعتمد على الأنشطة فقط.

على مدار أربع سنوات قضتها الابنة في المدرسة لم تتقدم دراسيًا، إذ يظل كل عام دراسي جديد تكرارًا لسابقه. تحاول أماني تعليم ابنتها معلومات إضافية في المنزل مثل العد والحساب، وتأمل أن تقترب مناهج التربية الفكرية من مناهج التعليم العام حتى يكتسب المتأخر ذهنيًا معلومات جديدة، ولا يشعر بالاختلاف.

نسبة 80% من طلاب التربية الفكرية يعانون من تدني مستوى الذكاء

عرضنا تلك الشكاوى على الدكتورة «شيماء الجوهري» أخصائي نفسي وإعداد برامج بعيادة التدخل المبكر في المركز القومي للبحوث، للوقوف على أوجه القصور في مدارس التربية الفكرية، والمناهج التي وضعتها لهم الوزارة.

أوضحت الدكتورة شيماء في البداية أن فئات الذكاء للمتأخرين ذهنيًا تتراوح ما بين 25 و79 درجة، حيث يحقق ذوو ضعف الذكاء البيني من 70 إلى 79 درجة، بينما يحقق المصابون بتأخر ذهني بسيط من 55 إلى 69 درجة. أما أصحاب الإعاقات الذهنية المتوسطة والشديدة، فتتراوح فئة ذكائهم ما بين 40 - 54 و25 - 39 درجة بالترتيب.

كشفت الدكتورة شيماء أن 80% من الحالات التي تأتِ لها من مدارس التربية الفكرية –خاصة المصابين بمتلازمة داون–  لا يتجاوز مستوى ذكائهم عند الاختبار سبعين درجة، بينما يحقق أقرانهم الملتحقين بمدارس دولية أو خاصة، أو بمراكز خاصة لذوي الإعاقة درجات أعلى.

أوجه القصور

وبسؤالها عن السبب، تقول الدكتورة شيماء أن البرامج التي تقدمها مدارس التربية الفكرية غير مناسبة لذوي التأخر الذهني. لهذا تطوعت عام 2017  للتعاون مع إحدى هذه المدارس لتدريب المعلمين على كيفية تقييم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وكيفية إعداد البرامج التأهيلية التي تتناسب مع قدراتهم.

كما تدرّب المعلمين على استخدام الأدوات التي تلائم الأهداف التدريبية الخاصة بكل طالب، لتنمية مهاراته في مختلف مجالات النمو العقلي. لكن الوضع الذي دربتهم عليه لم يستمر، لأن المعلمين في تلك المدارس بحاجة إلى متابعة وتدريب مستمر.

أما عن تراجع مستوى الذكاء لدى بعض طلاب التربية الفكرية، أضافت الدكتورة شيماء أن عدم تطور ذكاء الطفل المتأخر ذهنيًا في المدرسة، يعني أن البرنامج وأدوات التأهيل التي يستخدمها المعلم غير مناسبة لقدراته.

كما شددت على أهمية تصنيف الطلاب وفقًا لحالاتهم، موضحة أن الأطفال المصابين بمتلازمة داون لديهم قدرة عالية على التقليد؛ لهذا قد يكتسب بعضهم سلوكيات التوحد ويستمرون عليها دون وعي. ونظرًا لقلة عدد الفصول، تضطر بعض مدارس التربية الفكرية إلى ضم الكثير من التلاميذ في فصل واحد باختلاف حالاتهم ومستويات ذكائهم، ويتم تدريس منهج واحد للجميع بدلًا من الالتزام ببرنامج مخصص لكل طالب.

على الجانب الآخر، قالت الدكتورة شيماء أن المراكز الخاصة لذوي الإعاقة تستعين ببرامج ووسائل تعليمية تم إعدادها في دول أجنبية. كما تلجأ هذه المراكز أحيانًا إلى الدمج لتعليم الأطفال المتأخرين ذهنيًا عن طريق «النمذجة» – وهو أسلوب تعليمي يكتسب من خلاله الطفل المتأخر ذهنيًا مهارات معرفية أو سلوكية من خلال تقليد طفل طبيعي.

مسئولية مشتركة

أكدت الدكتورة «شيماء الجوهري» أن للأم أيضًا دور أساسي في تنمية مهارات ابنها المتأخر ذهنيًا، لأنه يقضي في المدرسة من أربع إلى خمس ساعات فقط. لذلك عليها الالتزام بالخطة العلاجية التي يحددها له الأخصائي طوال اليوم. أما إذا تكاسلت عن القيام بدورها سيتدهور المستوى العقلي للابن.

اقرأ أيضاً:  اضطراب الحبسة

نموذج للمراكز الخاصة

وفي محاولة لرصد نشاط المراكز الخاصة التقينا  بـ «إيمان محمد» المديرة الفنية لإحدى الأكاديميات الخاصة لذوي التأخر الذهني، والتي تقبل الأطفال من عمر عامين إلى 11 عامًا بلا حد أدنى لمستوى الذكاء.

أكدت لنا أن كثافة الفصل الواحد لديهم لا تتعدى سبعة طلاب حتى يكتسب كل طفل المهارات بشكل أفضل وأسرع. يجري الأخصائي النفسي اختبار ذكاء للطلاب كل ثلاثة أشهر باستخدام الصورة الخامسة من مقياس «ستانفورد بينيه» لمتابعة مدى تطور الطفل، واكتسابه للمهارات المطلوبة.

كما يستعين الأخصائيون ببرنامج «بورتيدج» لتقييم النمو العقلي للطفل في خمس مجالات وهي: الاجتماعية، المعرفية، الحركية، اللغوية، والذاتية.

يتحدد مدى تأخر النمو العقلي بناءً على المراحل التي لم يجتزها الطفل في الاختبار، ويتحدد بالتالي نقاط الضعف التي يتم العمل على تقويتها لديه. كما تجري المدرسة تقييمًا يوميًا، يكون على الطفل خلاله اجتياز أهداف محددة، ثم يكتب المعلم تقريرًا يوميًا لأولياء الأمور حتى يتسنى لهم متابعة مدى استجابة أطفالهم للمهارات التي يتعلمونها.

وبسؤال «نادية عبيد» إحدى المعلمات بالأكاديمية التي تعمل هناك منذ سبع سنوات، قالت أنها حصلت على دورات تأهيل وشرح للبرامج الجديدة من قبل أخصائيين في هذا المجال. وأوضحت أن تنمية مهارات الطالب المتأخر ذهنيًا تشمل أنشطة مختلفة مثل مطابقة الأشكال الهندسية والتلوين حسب النمط.

كما تخصص ثلث ساعة يوميًا للجلسات الفردية، يتعلم فيها كل طفل على حدة المهارات التي تنقصه، ويتم تسجيل تاريخ الإنجاز وتاريخ اتقان المهارة. أما بالنسبة لفصل الطلاب وفقًا للحالات المتشابهة، أكدت نادية أنهم يحرصون على فصل الأطفال الذين يعانون من لزمات سلوكية لتجنب تأثر زملائهم بهم. فيما عدا ذلك من الممكن أن يضعوا الطلاب في فصل واحد ما دام مستواهم العقلي متقاربًا.

اختبار الذكاء ليس مقياسًا دقيقًا

حملنا شكاوى أولياء الأمور و آراء الخبراء و تحدثنا إلى الأستاذة «إنجي مشهور»، مستشار وزير التربية والتعليم لشئون ذوي الاحتياجات الخاصة.

قالت لنا في البداية إن مدارس التربية الفكرية تقبل الطلاب الذين يحققون أقل من 67 درجة في اختبار الذكاء، والذي يتم إجراؤه عند التحاق الطالب بالمدرسة فقط، لكن لا يتم إجراؤه دوريًا بعد ذلك لأنه ليس مقياسًا دقيقًا على مستوى العالم.

أما كثافة الفصل، فتختلف بحسب المنطقة السكنية التي تقع فيها المدرسة، لكن بشكل عام يضم الفصل الواحد ستة طلاب في المتوسط. وكلما زادت كثافة الفصل العددية يصبح فصل الطلاب وفقًا للحالات المشابهة أصعب. كما أكدت أنه يوجد إشراف دوري على هذه المدارس لضمان تطبيق تلك المعايير.

أما بالنسبة للعاملين بمدارس التربية الفكرية، أضافت إنجي مشهور:

تقوم الوزارة بعمل بروتوكولات وتدريبات للأخصائيين والمدرسين والإداريين لرفع كفاءتهم وتدريبهم على برامج جديدة من خلال الاستعانة بأخصائيين من بعض الجمعيات والجامعات مثل: كلية علوم الإعاقة بجامعة الزقازيق، وكلية التربية بجامعة عين شمس. تتم هذه التدريبات بشكل شبه دوري لكنها ليست كافية.

مناهج جيدة لكنها بالية

وبسؤالها عن مناهج التربية الفكرية التي يشكو منها البعض، أوضحت إنجي مشهور أنها تختلف كليًا عن مناهج التعليم العام، لأن الهدف منها هو تعليم المتأخرين ذهنيًا مهارات تنمية الذات، وأساسيات العد والأرقام، والقراءة، والتعرف على الأشياء، والاعتماد على الذات، واكتساب بعض السلوكيات.

ترى إنجي مشهور أن هذه المناهج جيدة، لكنها لم تتغير منذ حوالي 60 عامًا. لهذا تهدف اللجنة التي شكلتها الوزارة إلى تطوير المنهج ليواكب البرامج العالمية الحديثة، والتي يمكن الاستفادة منها وربطها بالتقييم الفردي لكل طالب. كما ستعمل اللجنة على تطوير شكل المنهج بحيث ينمي قدرات الطفل المتأخر ذهنيًا ويجعله قادرًا على التفاعل الاجتماعي بصورة أفضل، لأن المناهج الحالية لا تحقق ذلك بالصورة العلمية المطلوبة.

التعاون مع الجمعيات الخاصة

أثنت إنجي مشهور على الدور الذي تقوم به بعض الجمعيات والمراكز الخاصة في تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة، وقالت: أقمنا بالفعل بروتوكولات مع بعض الجمعيات؛ مثل جمعية نداء لذوي الإعاقات المتعددة، ونرحب بالتعاون مع أي جمعية على استعداد لأن تشرف على عدد من مدارس التربية الفكرية، سواء من خلال تدريب المعلمين أو الإشراف على البرامج الفردية للطلاب، لأن هدفنا في النهاية هو التحسين.

تطوير شامل

أما عن خطط الوزارة المستقبلية، كشفت إنجي أن الوزارة تعمل على محورين:

يركز المحور الأول على تطوير المناهج والمنظومة الحالية، ويهدف المحور الثاني إلى تطوير كلي لشكل التربية الخاصة في مصر من خلال زمالات وبرامج عالمية، وقد تم طرح هذا المشروع في ملتقى شرم الشيخ الأخير، ووافق عليه رئيس الجمهورية.

يهدف المشروع الجديد إلى إنشاء مركز يدرب كوادر بإجازات عالمية، وبرامج تخدم الطلبة المتأخرين ذهنيًا بصورة أشمل. كما سيوفر لهم برامج جديدة لا تقتصر على الناحية الأكاديمية، بل تشمل كل النواحي التي يحتاجها الطفل، مثل العلاج السلوكي والتفاعل الاجتماعي في بعض الأمور كالبيع و الشراء، إلى جانب برامج التخاطب، وتنمية المهارات الصغرى والكبرى التي تعرف باسم «برنامج العلاج الوظيفي».

على الرغم من توفر بعض البرامج حاليًا؛ ترى إنجي أنها ليست بالأداء الذي تطمح إليه الوزارة. لهذا تسعى الوزارة إلى الاستعانة ببرامج عالمية وتطبيقها في مدارس التربية الفكرية، وتدريب الإخصائيين عليها.

هل كنت تعلم بوجود تخصص المعلوماتية الحيوية في مصر؟ شاهد معلوماتية حيوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
1
Share