في الوقت نفسه من كل عام، يبدأ شهر رمضان الكريم وتبدأ معه الاحتفالات والزينة التي تغمر البيوت والشوارع في كل مكان، لكن تبدأ معه أيضًا تلك المعضلة التي تتركنا لندور في حلقة مفرغة من الإفراط في تناول الطعام، ثم الشعور بالذنب ووعد النفس بعدم تكرار ذلك في اليوم المقبل، ليتكرر ذلك الوعد يوميًا حتى نهاية الشهر.
فلماذا نشتهي الطعام إلى هذا الحد؟ وكيف نفقد القدرة على التحكم في تناول الطعام حتى نقع بأنفسنا في تلك الحلقة المفرغة؟
كيف نشتهي الطعام؟
يعتمد شعور الفرد بالشبع أو بالجوع واشتهاء الطعام على توازن النشاط بين مجموعتين من الخلايا العصبية الموجودة بمنطقة تحت المهاد (Hypothalamus) بالدماغ، تعمل إحدى تلك المجموعتين على إفراز البروتينات المسؤولة عن شعور الفرد بالجوع، في حين تعمل الثانية على إفراز بروتينات أخرى تثبط ذلك الشعور وتمنح الفرد الشعور بالشبع.
لكن، ما الذي يحدد هيمنة إحدى هذه الخلايا على الأخرى حتى يشعر الفرد إما بالشبع أو بالجوع؟
إن المتحكم الرئيسي في ذلك هو احتياج أعضاء الجسم إلى الطاقة؛ إذ أن ازدياد احتياج أعضاء الجسم للطاقة يرفع مستويات هرمون (الجريلين) في الدم، الذي يعمل بدوره على تنشيط الخلايا التي تفرز البروتينات المسؤولة عن شعور الفرد بالجوع، ويظهر دوره جليًا في أثناء ساعات الصيام الطويلة.
وعلى النقيض، عند اكتفاء أعضاء الجسم وعدم احتياج الفرد إلى المزيد من الطاقة، يزداد مستوى هرمون (الليبتين) في الدم، ما ينشط مجموعة الخلايا الأخرى المسؤولة عن إفراز بروتينات الشبع.
لماذا نفرط في تناول الطعام في رمضان؟
يرتبط الشهر الفضيل بصفات الكرم والضيافة التي تعطيه رونقًا خاصًا، لكن في كثير من الأحيان، قد يبالغ البعض في التحلى بتلك الصفات، ما يدفعهم إلى الإسراف في تحضير أصناف الطعام المختلفة، ليس لإعداد وجبة الإفطار الرئيسية فحسب، بل لتشمل أيضًا المشروبات والحلويات التي تتلهفها النفس طوال ساعات الصيام، لينتهي الأمر بمائدة ممتلئة تكفي أضعاف المدعوين. ومع طول ساعات الصيام، واشتداد احتياج الجسم إلى الطاقة، ينتاب الصائم شعورًا بالرغبة الملحة في تناول كل أصناف الطعام الموجودة على المائدة دفعةً واحدةً بمجرد حلول موعد الإفطار.
لا يقتصر الأمر على الرغبة في تعويض احتياج الجسم إلى الطاقة فحسب، حيث تشير د. "أليسا رمزي" أخصائية التغذية، والمتحدثة السابقة باسم "الأكاديمية الأمريكية للتغذية" إلى أن مراكز الإحساس بمنطقة "تحت المهاد" قد تخطئ في بعض الأحيان في التمييز بين شعوري الجوع والعطش، واستنادًا إلى ذلك، فإن اشتداد الشعور بالعطش والجفاف خلال ساعات الصيام، قد يدفع البعض إلى الإفراط في تناول الطعام في محاولة خاطئة لتهدئة ذلك الشعور، في حين أن تناول الماء أو العصائر الطبيعية قد يغنيه عن ذلك.
هل يتسبب الصيام في اضطراب شره الطعام العصبي (Bulimia Nervosa)؟
اضطراب شره الطعام العصبي هو أحد اضطرابات الطعام، التي تجعل الشخص يتعرض لنوبات يفقد فيها السيطرة على شهيته للطعام، حيث يتناول كميات كبيرة من الطعام في سرية تامة، ثم بعد ذلك يحاول التخلص من تلك السعرات الحرارية الزائدة التي تناولها بطريقة غير صحية؛ فيحاول التقيؤ أو استخدام الملينات بشكل خاطئ أو الامتناع عن الطعام لفترات طويلة.
لا يتعلق اضطراب الشره العصبي بالطعام فحسب، بل يتعلق أيضًا بالصورة الذاتية للشخص، فالأفراد الذين يعانون هذا الاضطراب، غالبًا ما يشغلهم الحفاظ على الوزن وشكل الجسم إلى حد الهوس، ما يدفعهم أحيانًا للدخول في تلك النوبات من اضطرابات تناول الطعام.
لا يوجد -حتى الآن- ما يثبت أن هناك سببًا واضحًا لحدوث اضطراب الشره العصبي لبعض الأفراد، ولكن هناك بعض عوامل الخطر التي قد تتسبب في معاناة أحدهم من ذلك الاضطراب دون الآخر. يُعد اتباع نظام غذائي قاسي من عوامل الخطر، التي قد تساهم في حدوث اضطراب الشره العصبي، حيث يأتي في المرتبة الأخيرة بعد عدة عوامل.
وعلى الرغم من توافر الدراسات التي تشير إلى التأثير الإيجابي لتقييد السعرات الحرارية لساعات متصلة من اليوم على الجسم، إلّا أن هناك دراسات أخرى تربط بين تقييد السعرات الحرارية وتفاقم اضطرابات الطعام عامةً، واضطراب شره الطعام العصبي بشكل خاص.
مخاطر الإفراط في تناول الطعام
يحمل الإفراط في تناول الطعام، سواء على وجه العموم أو في تناول وجبة الإفطار بعد الصيام مخاطر عدّة على المدى القريب والبعيد على حدٍ سواء.
فعندما يفرط الفرد في تناول الطعام إلى حد امتلاء المعدة، قد يلاحظ شعورًا بعدم الارتياح والغثيان، الذي قد يصل إلى التقيؤ في الحالات الحادة، كما قد يتسبب امتلاء المعدة بالأطعمة؛ خاصة الحارة والدهنية، في تكون الغازات والشعور بالانتفاخ، فضلًا على النعاس وحالة انخفاض مستوى جلوكوز الدم، الذي يصيب الفرد نتيجة نشاط الإنسولين المفرط، كرد فعل لزيادة السكر في الدم بشكل حاد بعد الإفراط في تناول الطعام.
لا يقتصر تأثير الإفراط في تناول الطعام على اضطرابات الجهاز الهضمي والسمنة فقط، بل يمتد للتأثير على وظائف الدماغ، حيث تشير الدراسات إلى وجود صلة وثيقة بين الإفراط في تناول الطعام وحدوث خلل في وظائف الدماغ الإدراكية مع التقدم في العمر.
السيطرة على شراهة الطعام بعد الصيام
لكسر تلك الحلقة المفرغة من الإفراط في تناول الطعام بعد الصيام والشعور بالندم بعد ذلك، وللحفاظ على نظام غذائي متوازن في رمضان، إليك بعض النصائح:
شرب الماء
لا تقتصر فوائد شرب الماء بشكلٍ كاف بعد الإفطار على الحماية من الجفاف والإرهاق المصاحبين لساعات الصيام الطويلة فحسب، بل إن شرب الماء قبل تناول وجبة الإفطار يقلل من حدة الشعور بالجوع، ما يقي الفرد مخاطر الإفراط في تناول الطعام على الإفطار.
وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن شرب الماء في أثناء تناول الطعام يتسبب في مشكلات عسر الهضم، إلّا أن الدراسات العلمية تنفي ذلك الاعتقاد، وتؤكد عدم تأثر إنزيمات الهضم أو سرعة انتقال الطعام من المعدة إلى الأمعاء بشرب كمية قليلة من الماء خلال تناول الطعام.
لكن على كل حال، إن استجابة الجسم تختلف من شخص لآخر، لذلك إذا لاحظت أن شرب الماء خلال تناول وجبتك يصيبك بالانتفاخ أو عدم الارتياح، تجنب ذلك واكتفِ بشرب الماء قبل تناول وجبتك.
بدء الإفطار بالأطعمة الخفيفة
إن بدء الإفطار بالأطعمة الخفيفة المغذية مثل التمور، يمد المفطر بمصدر سريع للطاقة لضبط مستوى الجلوكوز في الدم، كما يعطي المعدة فرصة جيدة لتستعد لعملية الهضم قبل البدء في تناول الوجبة الأساسية. كذلك، تتمتع التمور بقيمة غذائية كبيرة باحتوائها على قدر كبير من الألياف والفيتامينات ومضادات الأكسدة، فتعد الغذاء الأمثل للبدء به قبل تناول وجبة الإفطار الرئيسية.
تناول وجبة الإفطار ببطء
عند تناول الطعام، تنشط مستقبلات التمدد في المعدة كلما امتلأت بالغذاء أو الماء، فترسل هذه المستقبلات الإشارات العصبية عن طريق (العصب الحائر)، وتطلق الهرمونات مثل(الكوليسيتوكنين) في الدم لتصل إلى مراكز الدماغ المسؤولة عن الإحساس بالشبع. كما تبدأ أيضًا الخلايا الدهنية بإفراز هرمون (الليبتين) الذي يعطي الإحساس بالشبع ويعزز من إفراز (الدوبامين) الذي يعطي شعورًا بالمتعة بعد تناول الطعام.
تبدأ تلك الإشارات بمجرد وصول أجزاء الطعام المهضومة جزئيًا إلى مستقبلات المعدة والأمعاء الدقيقة. واستنادًا إلى ذلك، فإن تناول الطعام بتأني، يعطي جزيئات الطعام فرصة للوصول إلى مستقبلات الجهاز الهضمي، التي تعطي الشعور بالشبع، ما يمنع الفرد من الإفراط في تناول الطعام.
السحور المتوازن
إن تناول وجبة سحور متوازنة يضمن للصائم مدّة أطول من الشبع وانخفاضات أقل حدة في مستويات الجلوكوز في الدم. على سبيل المثال، فإن تناول النشويات المعقدة مثل القمح والشوفان في وجبة السحور، من شأنه أن يمد الجسم بالطاقة بشكل بطيء في أثناء الصيام، كما تعمل منتجات الألبان والزبادي على الاحتفاظ بترطيب الجسم، ما ينعكس بدوره على شراهة الصائم للطعام والشراب على الإفطار.
لا يقتصر السحور الجيد على نوعية الطعام الذي يتناوله الفرد فقط، بل يعتمد أيضًا على توقيت تناول وجبة السحور، فكلما تأخر الفرد في تناول تلك الوجبة، قلت ساعات الصيام، وبذلك تقل احتمالية تعرض الجسم لانخفاضات حادة في مستوى السكر بالدم.
أخيرًا، إن الصيام -بلا شك- له فوائد جمة لجسم الإنسان، ليس من الناحية الجسدية فقط، بل على الجانب السلوكي والروحاني أيضًا. ولكن لتتحقق تلك الفائدة، يجدر بنا اتباع بعض العادات الغذائية البسيطة التي تقينا مخاطر صحية عدّة.