ماوكلي والشامبنزي الذي تربى كما البشر

"ماوكلي" vs الشامبنزي الذي تربي كما البشر

في عام 1894، أصدر الكاتب الإنجليزي "روديارد كبلينغ" مجموعته القصصية الشهيرة "كتاب الأدغال - The Jungle Book"، التي أُنتجت بعد ذلك كفيلم ومسلسل رسوم متحركة لاقى رواجًا كبيرًا بين المشاهدين. 

تدور أحداث القصة حول "ماوكلي"، صبي صغير يذهب في رحلة استكشافية مع والديه في إحدى القرى التابعة لمدينة "مومباي" الهندية، ليسحره جمال الطبيعة، خاصةً قطيع الغزلان الذي يدفعه للحاق بهم والابتعاد عن مخيم والديه، ليبقى "ماوكلي" بعد ذلك وحيدًا في الغابة إلى أن يقرر زوجان من الذئاب "لوري" و"ألكسندر" الاعتناء به وتربيته في وسط قطيعهم.

يكبر "ماوكلي" وسط عائلته من الذئاب، فيتعلم لغتهم ويتأثر بسلوكياتهم، لكنه لا يتقن التعامل مع البشر، بل وينكر انتماءه لهم. 

قصة حقيقية أم من نسج الخيال؟

يعتقد الكثيرون بأن قصة "ماوكلي" نابعة من وحي خيال المؤلف، إلّا أنها في الحقيقة مستوحاة من أحداث شهدها "كبلينج" خلال مسيرته الأدبية. ففي فبراير من عام 1867، عثر مجموعة من الصيادين في إحدى رحلاتهم على فتى صغير يبلغ من العمر حوالي ستة أعوام، يعيش ضمن قطيع من الذئاب، في كهف صغير في إحدى غابات الهند، أطلقوا عليه "دينا سانيشار". 

كان "سانيشار" لا يستطيع المشي سوى على أطرافه الأربعة، ولا يتناول غير اللحوم النيئة. كما أنه لم يكن يتقن الكلام، بل أنه كان يصدر أصواتًا تشبه عواء الذئاب، ما يشير إلى نشأته وسط ذلك القطيع وتأثره بهم إلى حد بعيد.

لم يكن "سانيشار" الوحيد الذي تربى بين الحيوانات، حيث يزخر التاريخ بالعديد من القصص التي تحكي نشأة أطفال على أيدي قطعان مختلفة من مملكة الحيوان، سواء ذئاب أو كلاب أو حتى قرود. وعلى سبيل المثال لا الحصر:

ماوكلي, الشامبنزي

ماذا وإن انعكست التجربة؟

مع كثرة القصص التاريخية التي تحكي نشأة أطفال بين قطيع من الحيوانات، توجه الباحثون لدراسة تأثير نشأة الأطفال في تلك البيئة على مهاراتهم السلوكية والتعبيرية والإدراكية، ولأن إجراء التجارب من أجل فهم أعمق لتلك التأثيرات يوجب وضع المشاركين في بيئة قد تؤدي إلى تدهور مهاراتهم البشرية بشكل دائم، لذا فإن الأمر غير مقبول أخلاقيًا.

ومن هذا المنطلق، فكر الثنائي "وينثروب كيلوج" وزوجته "لويلا" في إجراء تجربة لدراسة الأمر بشكل عكسي، أي بتربية إحدى صغار الحيوانات في بيئة بشرية، لدراسة تأثير تلك البيئة على نمو وتطور تلك الحيوانات الصغيرة.

وفي السادس والعشرين من يونيو عام 1931، وقع الاختيار على "جووا"، وهي أنثى شمبانزي تبلغ من العمر سبعة أشهر ونصف، وقرر الثنائي التكفل بتربيتها إلى جانب ابنيهما "دونالد" الذي كان يبلغ من العمر آنذاك عشرة أشهر. ولمدة تسعة أشهر كاملة، كان الثنائي يعمل على تنشئة الصغيرين بالطريقة نفسها، سواء بتقديم نفس نوعيات الطعام والشراب والملابس أو على مستوى التنشئة السلوكية. وفي الحين نفسه كانا يراقبان ويسجلان جميع التغيرات التي تطرأ على الطفلين، سواء على الجانب السلوكي أو على جانب التطور الذهني والبدني.

اقرأ أيضاً:  لرواد الأعمال: 5 أفلام يجب ألا تفوت مشاهدتها

اختبارات يومية ونتائج غير متوقعة!

على عكس المتوقع، أظهرت "جووا" تقدمًا ملحوظًا عن "دونالد" في المراحل الأولى من التجربة، خاصةً في تعلم الاستجابة للأوامر البسيطة، واستخدام الأكواب للشرب والملاعق لتناول الطعام، كما أظهرت "جووا" مهارة أكبر في بعض الاختبارات والحيل التي كان يصنعها "كيلوج" مثل العثور على الحلوى التي كان يخبئها أو يضعها في أماكن مرتفعة يصعب الوصول إليها. 

كما أظهر الطفلين اختلافًا في قدرتهما على التعرف إلى الأشخاص، ففي حين كان "دونالد" يتعرف إلى معظم الأشخاص بوجوههم، كانت "جووا" تتعرف إليهم إما عن طريق الرائحة أو الملابس المميزة.

كما تعلمت "جووا" العديد من السلوكيات البشرية، حيث تعلمت ارتداء الأحذية والوقوف والمشي بشكل مستقيم، وليس على أربعة أرجل، كذلك تمكنت "جووا" من تقليد بعض التعبيرات البشرية التي تعبر عن الحالة المزاجية، كإظهار حبها لـ"دونالد" بعناقه وتقبيله. 

لكن، لم يستمر تقدم "جووا" طويلًا، فمع التقدم في مراحل التجربة، ومع بلوغ "دونالد" حوالي 16 شهرًا، كان يستطيع تكوين كلمات وأظهر تطورًا في المهارات اللغوية، في حين لم تتمكن "جووا" سوى من إصدار أصوات إيماءات بسيطة، لا ترتقي إلى حد الكلام، ما يؤكد قصور القدرة التعبيرية لديها.

إنهاء التجربة في ظروف غامضة

بعد تسعة أشهر كاملة من تنشئة الصغيرين معًا ومراقبة تطوراتهما جيدًا، قرر الثنائي إنهاء تلك التجربة بشكل مفاجئ وإرسال "جووا" إلى أحد مراكز رعاية الحيوان، لتلقى حتفها بعد أقل من سنة من إنهاء التجربة، تحديدًا في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1933، في حين أكمل "دونالد" حياته ليصبح طبيبًا بشريًا، لكنه أنهى حياته فيما بعد بالانتحار عن عمر يناهز 43 عام.

ظل السبب الحقيقي وراء إنهاء تلك التجربة بشكل مفاجئ لغزًا محيرًا للكثيربن، فالبعض يعتقد بأن إجهاد الثنائي من تنشئة الصغيرين ومراقبتهما بشكل مستمر هو الدافع الرئيسي وراء إنهاء التجربة، في حين توجه تفكير البعض إلى تفسير الأمر بخوف الثنائي من تأثير "جووا" على ابنيهما "دونالد" بعد أن أصبح "دونالد" يقلدها في الكثير من الأفعال والسلوكيات، حتى إنه أصبح يعبر عن رغبته في تناول الطعام بضرب فكيه وإصدار أصوات تشبه أنين "جووا".

على كل حال، خلص "كيلوج" من تلك التجربة إلى إمكانية اكتساب الحيوانات لبعض الصفات والسلوكيات البشرية، عن طريق التوجيه المناسب والتواجد في بيئة محفزة لذلك، إلّا أن اكتساب تلك المهارات محدود بحد معين لا يمكن تخطيه، ويتوقف على العامل الجيني الذي يحدد مدى استجابة تلك الكائنات للمحفزات البيئية والتوجيهات السلوكية.

أخيرًا، يزخر التاريخ العلمي بمئات التجارب التي تبدو غريبة، بل إنها قد تتعارض بشكل كبير مع القواعد الأخلاقية التي تقنن التجارب العلمية. ومع أن تلك الدراسات والتجارب أضافت الكثير في سبيل تحقيق فهم أعمق للسلوك البشري، يظل إهمال الجانب الأخلاقي في أثناء إجراء تلك التجارب، جانبًا لا يُمكن تجاوزه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share