الميكروبيوم | كيف تسيطر تلك الكائنات الدقيقة علينا؟

"أنت نِتاج ما تأكل" ربما سمعت تلك العبارة تتردد من حولك منذ طفولتك، أو ربما قرأتها يومًا في إحدى المجلات أو الكتب المعنية بتقديم نصائح الحفاظ على الصحة. وبالرغم من منطقية تلك العبارة إلى حد بعيد، إلّا أنها تفتقر إلى بعض الدقة. 

فأنت نِتاج ما تطعمه لملايين المليارات من الكائنات الحية المجهرية التي تسكن أمعائك، ويطلق عليها العلماء مصطلح (الميكروبيوم). إن مصطلح (الميكروبيوم) مصطلح جديد نسبيًا؛ عُرف للمرة الأولى في دراسة للچينوم البشري أجراها "ليدربرج" و"مكراي" عام 2001.

ما الميكروبيوم؟ ولماذا نحتاج إليها؟

يمثل الميكروبيوم جيشًا جرارًا يتكون من مليارات بل تريليونات من الكائنات المجهرية؛ البكتيريا والفيروسات وحتى الفطريات، التي تستوطن جميع أنحاء جسدك، بدءًا من جلدك إلى فمك ووصولًا إلى أمعائك، ليسوا غزاة كما توقعت، بل حلفاء يتعايشون معنا في سلام، ويكونون نظامًا بيئيًا متوازنًا؛ ليحققوا علاقة تكافلية متبادلة. فما فائدة ذلك الجيش الذي يفوق عدد خلايا الجسم بأكثر من عشرة أضعاف؟

إنها علاقة تكافلية فريدة من نوعها؛ حيث تستطيع تلك الكائنات المجهرية القيام بسلسلة من الوظائف الهامة في أجسادنا، مثل:

تعزيز الجهاز المناعي

في عام 2020، نشرت دورية نيتشر (Nature) دراسة أوضحت العلاقة الوثيقة بين الميكروبيوم وتطور الجهاز المناعي بشقيه؛ الفطري والتكيفي. كما أشارت الدراسة نفسها إلى ارتباط اختلال الميكروبيوم (Dysbiosis) بحدوث أمراض المناعة الذاتية؛ مثل التهاب المفاصل الروماتويدي (Rheumatoid Arthritis)، وبعض أمراض الجهاز الهضمي، مثل داء الأمعاء الالتهابي (Inflammatory Bowel Disease).

تسهيل عملية الهضم

تستطيع أنواع من البكتيريا المكوِنة للميكروبيوم هضم بعض أنواع الألياف النباتية، وإنتاج أحماض دهنية قصيرة السلسلة (SCFA). تساهم تلك الأحماض الدهنية في خفض احتمالية حدوث السمنة، وأمراض القلب، وداء السكري، وهي إلى ذلك تقلل من خطر الإصابة بالسرطان وفقًا للدراسة التي نُشرت عام 2016 في دورية (Frontiers In Microbiology).

الحفاظ على صحة القلب

تشير دراسة حديثة أُجريَت على أكثر من 1500 شخص إلى الدور الذي يلعبه الميكروبيوم في تعزيز مستوى الدهون الثلاثية في الدم، كما يرفع من نسبة البروتين الدهني عالي الكثافة (HDL) والذي يُعرف ب"الكوليسترول الجيد" الذي يحافظ على صحة القلب. 

لكن على نقيض ذلك، أشارت دراسة أخرى أن بعض أنواع البكتيريا المكوِنة للميكروبيوم قد تسهم في حدوث أمراض القلب والأوعية الدموية، عن طريق إنتاجها للمركب العضوي المعروف ب (TMAO) الذي ينتج عن هضم الكولين والليسيثين والكارنيتين، الموجودين بوفرة في اللحوم الحمراء.

تعزيز القوى العقلية

قد تبدو مغالاة للوهلة الأولى، فكيف لتلك الكائنات الدقيقة التي تستوطن أمعائنا أن تؤثر على قوانا العقلية؟ تشير الدراسات الحديثة إلى التأثير الهائل للميكروبيوم على أدمغتنا وسلوكياتنا بواسطة (المحور المعوي الدماغي - Gut Brain Axis)، ووصف الباحثون ذلك التأثير بأنه مدخل لتطوير تقنيات علاجية لأمراض الجهاز العصبي المركزي.

المحور المعوي الدماغي (Gut-Brain Axis) 

هل سبب لك التوتر يومًا ألمًا في بطنك، وجعلك تشعر أن جهازك الهضمي ليس على ما يرام؟ يمكن تفسير ذلك بالاتصال الذي يحدث بين الدماغ والجهاز الهضمي. يشير مصطلح (المحور المعوي الدماغي) إلى الشبكة التي تصل بين الأمعاء والدماغ  وتتضمن:

العصب الحائر وشبكة الأعصاب 

تحتوي الأمعاء البشرية على أكثر من 500 مليون خلية عصبية تصلها بالدماغ، ولعل أكبر الأعصاب المعنية بتوصيل الإشارات العصبية من الأمعاء إلى الدماغ هو العصب الحائر (Vagus Nerve). تشير الدراسات إلى أن التوتر من شأنه أن يثبط الإشارات العصبية التي ينقلها العصب الحائر، ما قد يتسبب في الإصابة باضطرابات الجهاز الهضمي.  

اقرأ أيضاً:  بحلول عيد الأم: الموافقة على أول علاج لاكتئاب ما بعد الولادة

الناقلات العصبية (Neurotransmitters)

الناقلات العصبية هي مواد كيميائية تُفرز من قبل الخلايا العصبية، وتستطيع أن تنظم المشاعر كما تساهم في توجيه السلوكيات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يساهم السيروتونين في إحساسنا بالسعادة وفي تنظيم ساعتنا البيولوجية.

تشير الدراسات إلى أن السيروتونين لا يُفرَز من الخلايا العصبية الموجودة في الدماغ فحسب، بل إن ميكروبيوم الأمعاء باستطاعته أيضًا إنتاجه والتأثير على حالتنا المزاجية، مما يفتح للعلماء والباحثين مدخلًا لعلاج بعض أنواع الاكتئاب عن طريق تطوير التقنيات المعنية بتعديل الميكروبيوم. 

كيف نحافظ على التوازن الميكروبيومي؟

وفقاً للدراسات العلمية ، كلما كانت بيئة الميكروبيوم أكثر ثراءً وتنوعًا، كلما قل خطر الإصابة بالأمراض وبعض أنواع الحساسية. يتأثر التوازن الميكروبيومي بعوامل عدة، أبرزها النظام الغذائي للفرد. فيساهم الطعام الذي نتناوله في الحفاظ على التوازن الميكروبيومي، إما عن طريق توفير الغذاء للكائنات المكونة للميكروبيوم (البريبيوتيك)، أو عن طريق تزويدها مباشرة بالميكروبات النافعة (البروبيوتيك).

هل يمكن زراعة الميكروبيوم؟

تزخر الدراسات العلمية بالوظائف الجمة التي يؤديها الميكروبيوم في أجسادنا، فماذا يحدث إذا اختل توازن ذلك النظام البيئي؟ هل يمكن تجديد الميكروبيوم أو نقله من شخص لآخر؟

(زراعة جراثيم البراز) تبدو للوهلة الأولى مثيرة لاشمئزاز البعض، لكن ماذا وإن عرفت أن باستطاعتها علاج الآلاف من المرضى بل الملايين؟ تُعرف تلك العملية أيضًا بنقائل البراز (Fecal Microbiota Transplantation)، وتهدف إلى استبدال أو تعويض ميكروبيوم المريض، عن طريق إعادة توطين أمعاء المريض بميكروبات نافعة مأخوذة من أمعاء متبرع. 

ففي عام 2009، أشارت الدراسات إلى فعالية عملية (زراعة جراثيم البراز) في علاج التهاب القولون الناتج عن عدوى المطثية العسيرة (Clostridium difficile)، التي لم يوصف لعلاجها قبل اكتشاف تلك العملية سوى تناول المضادات الحيوية.

تتسبب تلك البكتيريا في الإصابة بنوبات من الإسهال الدموي والمائي، ما قد يصل إلى حد الموت في أسوأ الحالات. لذا، في الحالات التي لا تستجب للمضادات الحيوية، تلعب (نقائل البراز) دورًا حيويًا في إنقاذ حياة المريض بالسيطرة على تلك النوبات المميتة.

لكن، حرصًا على سلامة المرضى وتفاديًا للمخاطر التي قد تحدث من جرّاءِ عملية (زراعة جراثيم البراز)، وأبرزها انتقال العدوى وتفاقم داء الأمعاء الالتهابي، حذرت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) من الأخطار الناجمة عن زراعة الميكروبيوم دون إجراء الفحص اللازم للمتبرعين، حفاظًا على حياة المتلقي للعلاج. 

أخيرًا، فإنه بالرغم من حداثة علم الميكروبيوم، فإن تطبيقاته السريرية والدراسات المهتمة بتحليله لفهم تلك البيئة المتوازنة بدأت في الانتشار بشكل هائل في الأوساط العلمية. فهل يستطيع العلم تطويع الميكروبيوم لعلاج الأمراض التي كان يصعب الشفاء منها من قبل؟ هذا ما ستكشفه لنا المزيد من الدراسات في المستقبل القريب.

اقرأ أيضاً هل مرض الباركنسون مميت؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مرتبطة
Total
0
Share